ربما لا تكون هذه المجموعة القصصية علي المستوي الفني المطلوب ، ولكنها تكتسب اهميتها في نظري من مصداقيتها حيث ان كل همسة تمثل مرحلة وتجربة في مسيرة حياة المؤلف

همسات هادرة

الهمسة الأولي ..

هرتي الفاتنة

اري هالة السعادة تغلف جسدك الرشيق وانتي تمرحين بين الزهور

يا لسعادتي .. شكرا لكيل

هل انتي سعيدة وانتي تركضين خلف تلك الفراشة الزاهية ؟ نعم هي جميلة وتسعد بقفزاتك الرشيقة وانتي خلفها

فلتمرحي حبيبتي .. وشكرا لكي

وليسعد ذلك العشب الاخضر البهي بجسدك الناعم وهو يتمطى فوقه ، هو ايضا يشكرك شكري لمنحك له تلك السعادة ، وكأنك خلقت لإسعاد كل من حولك بسعادتك ، ادعوا الله ان تزيد سعادتك رحمة ونعمة منه علي من حولك

شكرا لله .. ثم شكرا لكي

فلتركضي هرتي الاثيرة بين مروج الذهب اليافعة تستنشقين في سعادة عبير الحياة البض ، ولا تلتفتي للخلف لتكشفي نظراتي الحانية تراقبك في لهفة الاب العاشق ، يسعد برؤية السعادة في عينيك اليوم ويستشعرها بقلبه كرأي العين، حين يختفي جسدك الممشوق بين الازهار ، لا تلتفتي رحمة بي، أخشي أن ينقطع خيط وجدك وسعادتك في لحظة التفكير فيَّ وانا اتطلع اليك من نافذة كوخي بجوار الجدول الصغير .

الا تسعدين بسعادتي ؟ فلتسعديني بسعادتك

وحين تغرب الشمس معلنة هدنة المرح و تتوقين الي بعض الدفء ، اركضي يا معشوقتي الي الكوخ وادفعي الباب المفتوح لكي علي الدوام بقدمك الرقيقة ، وادخلي في كنفه ستجديني حتما هناك قابع في سريري ، ملتحف بلحافي ، ممسك بكتابي ، منتقبا منظاري ، مستغرقا في افكاري ، متشوقا لعودتك .

حين اراكي سأهش اليك كالعادة وسأفسح لكي دثاري ، لتندسي فيه طلبا لبعض الدفء . حتما ستشعرين به ، اثق في ذلك - فثقي بي .

لا تجعلي رياح الغروب التي المت بكي في الخارج تفقدك الثقة في وجود ذلك الدفء ، هو موجود لكنك لم تصلي اليه بعد ، ان لم يدفئك ردائي فسيتكفل حبي وحناني بذلك ثقي في اسدك الهصور .

هرتي..

 سأهرول بلهفة وشوق لأحضر لكي طبقك الفضي اللامع، واسكب لكي بعضا من اللبن الدافئ ، وامسح علي راسك وانت مستمتعة بوجبتك الشهية

لا حبيبتي .. لا تشغلي بالك بلعق اصابعي ويدي اظهارا لامتنانك. هذا جزاء احسانك لي ، حين كنتي تمرحين بين المروج.

تمت

-----------------------------------------

الهمسة الثانية ..

يقف امام هذا الطاووس مشفقا على كرامته ان يتنازل ويتحدى تلك الدمية البلهاء، تتخايل بسخف امام ذلك الحشد الكبير من قطيع البشر

احمدك ربي إني لست منهم، وأشرف ان اكون من معشر البقر

اهو من لقب نفسه بـ "الماتادور" ام تم خداعة بهذا اللقب؟

ايدري معناها؟ ايدري مدلولاتها؟ ههههه ايدري كم هو مثير للشفقة بتراقصه المخجل وتشبهه بالرجال؟

له شأنه، ولقروني في احشائه شأن اخر ودرس لباقي البشر

لا تقلل من قوة خصمك مهما يكن ولا تحتقر

يقف امامه بكل شموخ وتحفز، ويتهيأ الماتادور الدمية لذلك اللقاء بتحفز، شاهرا سيفه القصير نحو الثور الهائج

مشهد تحبس له الانفاس

يحفر الثور بقدمه الأرض من تحته قبل ان يزلزلها بانطلاقة هادرة نحو الماتادور وقد صوب طرف قرنه الي احشاء ذلك الميت البائس.

ينطلق كالبرق وعيناه تطوفان بقطعان البشر التي تلوح وتؤازر دميتها المثيرة تحثها علي الثبات امام الموت الوشيك وكأنها تحضها علي الموت بشرف ترجوا ان تناله، يلمح بين القطعان من يشفق علي هذا البائس الـ "ماتا دور"، ويلمح امرأته وهي تصرخ فيه بالثبات وليثبت لها رجولته الان عوضا عن فحولته المهدرة ، لكن .. ما ان شاهده حتي تسمرت قدماه علي بعد شبر من الدمية وكأن الزمن توقف فجأة بتلك الكتلة الهائلة بسرعتها الخارقة

ملاك صغير بائس بين أحضان زوجة الـ "ماتادور" يرتجف فرقا علي والده وقد جمدت الدموع في عينيه الفاتنتين من الرعب ، كان ذلك كفيلا ليرق له قلب ذلك الوحش الهائج القادم للانتقام – فيتسمر مكانه كالوتد.

ولشد ما وجده ذلك القلب من دهشة واحتقار حين وجد نصلا حادا قد اخترق ثناياه مباشرة وممسكا به تلك الدمية .

 ما اتعس الشرف حين يدنسه من لا يستحقه من اشباه البشر.

رمق الثور بغضب قاتل واحتقار بالغ فريسته البائسة وقد شوه الرعب والهلع الفائقين ملامحها حتي أضحت نموذجا للموات التام، أذلك جل ما تستطيعه أيها التعس الحقير ؟ أهذا ما تقدمه لابنك كي يفخر بنذالة وخسة والده مستقبلا؟ أهذا ما تعلمه إياه يا صاحب الأمانة والقوامة في ارض الله ؟

وتعاورت جسده العملاق نصال حادة كالمطر من كل صوب فكالته غضبا علي غضب ، أي مخلوقات تلك ؟ انني اقاتل تلك الدمية التي ارتضيت قتالها ، وارتضيت لها سلاحها الذي طعنتني به في خسة تندر بين كافة مخلوقات الأرض ، ثم تغدر بي أيضا تلك النصال الشرهة لجسدي دون رحمة بلا ادني شرف ولا حياء ؟

لم يطق الثور كل تلك الحقارة الممزوجة بالآلام البشعة فأزاح بعنف جسد الماتادور من امامه والقاه بعيدا كانه لا يطيق رؤيته ، ونظر الي الجماهير ليطمئن الي الملاك البريء ، فرآه بين أحضان امه وقد سكن روعه قليلا ، ابتسم له الثور بشفقة باهتة ، لا تخش يا صغيري علي دميتك الموت ، لقد تركتها لك لتلهو بها .

ولكن حذار..

ان تتعلم منها شيئا باسم الابوة ، فهي لا تصلح لتربية احد ولا حتي نفسها ، كن بفطرتك افضل !

التفت الثور ناحية الماتادور وتقدم اليه بثبات غير عابئ بالنصال التي تتساقط عليه بلا رحمة ولا بالآلام التي تذيقه عذاب فوق التحمل ، حتي وقف امامه بشموخ وهو ينظر اليه بعينين كساهما الدم والغضب ، أهذا انت بطلهم ؟ أهذا من كان يحلم بان يهزمني ؟

نظر الي الجماهير الشاخصة اليه وهو يزعق بكل قوته ، اما انتم فلستم جديرون بلقب الاحياء ، قلوبكم القاسية حكمت عليكم بلقب الأموات ولكن لا تشعرون ، فقدتم احاسيس الرحمة وصرتم مسوخ لمصاصي دماء يمتزج فيها الهمجية البلهاء بالسادية المقيتة .

انتم الأموات اما انا فسأعيش بينكم كبطل وان لم تعترفوا لي بذلك ، لكن سيكفيني وقفتي هذه امامكم ووقفة الخزي لأنفسكم بداخلكم .

خارت قواه ودارت الدنيا برأسه ، فهبط الي الأرض فوق فراش دمائه الذي افترش الأرض تحته ، رأي الدمية وقد نهضت ثم غرست نصلها ثانية في رقبته فقهقه عاليا بضحكة ملأت شدقيه ، وفارق تلك الحياة .

تمت

---------------------------------------------------------------

الهمسة الثالثة ..

تتهادي في خطواتها من الآلام المبرحة التي تعانيها في سائر جسدها، بين جنود سفاحين قد طبع السواد قلوبهم بعد بشرتهم فصاروا ابعد ما يكونون عن الرحمة وشرف الجندية.

تجاهد بأقصى ما تملك من جلد لتبقي ثابتة الجنان ولا يبدوا عليها جزء من عذابها وهي مقتادة بغلظة وجفاء وزجر وتعذيب جلاديها الاشاوس لتواجه عظيم الشر عظيمهم. ماذا يمكن لهذا المجرم العتيد أن يفعل بها اكثر مما فعل زبانيته؟ هل بقي له شيء من قاموس التنكيل والتعذيب لم يمارس عليها ويريد تجربته بنفسه؟ أم بقي منها هي شيء يمكن ان يمارس عليه تعذيب؟ لحظات وستتم الإجابة علي سؤالها !

خطت بتهالك داخل ايوان عظيم الشر الاشرم، بين ثالوث حزنها القاتل وآلامها البشعة ودمائها المتدفقة، انبهرت عيناها علي الرغم منها بذلك الايوان الملكي الهائل والذي يحوي من عناصر الترف والبذخ والفخامة المطلقة بأضعاف ما يحوي من ذلك الكم الهائل من البشر علي اختلاف رتبهم ودرجاتهم وحظوتهم لدي ذلك الشر المتجسد في ذلك الكائن المتموقع في صدر ذلك الايوان العظيم.

أشرم الجبهة واسعها، عظيم الجسد والعارضين والكتفين، يملك شعرا مجعدا يباري بشرته في سوادها وخشونتها، عيناه الواسعتان ورأسه الضخم ووجهه الممتلئ بنتوءات الدهر قد صنعت له هالة من المهابة تبث الرعب فيمن يراه.

ثم وقعت عيناها عليها .. فكانت النظرة كصاعقة رهيبة أصابت قلبها وكيانها مباشرة فأطار الألم والعذاب وكل المشاعر من داخلها مع تلك اللحظة، فلذة كبدها ووحيدتها وأنسها الذي تعيش لأجله بعدما فقدت الزوج والأهل جميعهم علي يد ذلك المجرم الأشرم القابع علي عرش الجحيم، تلهو بحلوي في يدها أمام ذلك الشيطان وقد ارتدت من الثياب والزينة ما لم يطوف حتي في أحلام أمها أن تري ابنتها فيها، تلتقط الحلوى من  ذلك الشيطان خلفها وهو ينظر الي الأم وقد ضاقت عيناه تماما وارتسمت علي وجهه وشفتاه ابتسامة باهتة أشد ما تكون من المقت والحقارة ثم بادرها قائلاً: "أهلا بالبطلة العظيمة ، يا لجنودي السيئين! ما الذي فعلوه بجسدك الضعيف ؟ هؤلاء المجانين سأعاقبهم أشد العقاب علي فعلهم الشنيع.

لشد ما أبهرني ما  رووه لي عن شجاعتك وجلدك في مواجهتهم وقتالهم ما جعلني أعجب بك من قبل أن اراك وأتألم (يكتم ضحكة خفيفة) لذلك العذاب البواح الذي تعرضت له"

رمقته بعيون نارية وشمم يستحيل أن يجد للذل سبيلاً " وسيزداد اعجابك  بي أكثر حين تعلم أني لست بالمقاتلة ونادرا ما امسكت سلاحاً طوال حياتي، سيكون  اعجابك  بقدر نقمتك واشمئزازك ممن  واجهتهم من قطيع الضأن الذين تدعوهم جنوداً وتحيطهم بك ليحموك". ارتسم غضب الدنيا بعينيه ووجهه الشيطاني للحظات ثم استعاد بسرعة سيرته السابقة كأبرع ما يكون التمثيل واخفاء المشاعر الداخلية قائلاً "حسناً .. سأؤدبهم بطريقتي.

لتعلمي أيتها المرأة العظيمة ما ينتظرك من خير عميم وجزاء عظيم إن أجبتي سؤالي الذي أودي الصمت عنه بكامل من بقي حياً من قبيلتك، انظري الي الرفاهية والثراء والعز الذي ترفل فيه صغيرتك ذات العامين من عمرها وقد ابدلناها ثياباً فاخرة بثيابها الرثة البالية التي  تظهر من جسدها أكثر مما تستر لقيظ شمس الصيف وثلج وبرد الشتاء، ثم عودي وانظري لحالك وما انتي عليه من بلاء وقارني كيف سيكون بعد ان تنتقلي من فسطاطك الي فسطاطها"

رمقته المرأة بنظرة ملؤها التحدي والاحتقار ولم ترد.

اكتسي وجهه الأسمر بالمسحة الشيطانية وأطلت نيران الغضب الهادر من عينيه وهو يهدر قائلاً "ان ربك المزعوم ودفاعك عن كوخه الحجري الذي سيباد تحت اقدام فيلتي العملاقة لن ينجيك من عذابي الفائق الشدة، لم تري شيئا بعد، وهو كذلك لن يوفر لكم في جنته التي وعدكم بها ما سأمنحه لك من نعيم يحسدك عليه الانس والجن كافة، ستكونين يا هذه محظيتي المقربة وستعيش رضيعتك في كنفك وتحت ظل رعايتي انا؛ الملك الغازي المعظم ابرهة، كاسر العرب ومذل ملوك الاراضين، مرعب الأمم ومحطم الدول.

هل تدركين ما أقول؟"

ساد الصمت للحظات قبل ان يكمل لسانه وبعينيه خبث ومكر أعتي الشياطين "وربما تودين أن تسبقك صغيرتك الي جنة ربك بعد ان تلاقي ما لاقيتيه من عذاب"

هنا كانت الصاعقة الثانية والأشد قوة عن سابقتها تصيب فؤادها وجوارحها، كيف لتلك الفراشة الرقيقة أن يخطر ببال بشر أن يعرضها لجزء مما تعرضت له هي ؟

هي مستقرة بداخلها أن عذاب الدنيا كلها أهون أن تتعرض له طواعية من أن تبوح بالسر الذي يؤرق ذلك الشيطان الهمجي وجنوده ويسعون لانتزاعه من كل الاحياء. هل يعقل أن تخبرهم بمواطن الماء الغير مسممة في طريقهم لهدم بيت الله الحرام؟ هل تساوي حياتها واي عذاب تتعرض له أن تبوح بهذا السر الجلل لأجله؟ ولكن ماذا عن فلذة كبدها؟ هل ستتمكن هي من الوفاء بعهدها الذي قطعته علي نفسها مع رؤية آلام العذاب في عيني ابنتها ؟

رحماك يا الله .. انزع ما فطرته في قلوب الأمهات من الرحمات والتي باتت قيودا نارية تشوي بها قلوبهن في مواقف كهذه!

في لحظات عزمت أمراً جعلها تكسو وجهها بقناع زائف وتتوجه الي الملك قائلة "وما يدريني بصدق وعدك أيها الملك ان اجبت سؤلك؟" ، تهللت أسارير الملك ولمعت الفرحة الغامرة في عينيه ووجهه "لكي كلمة الملك المعظم ابرهة .. ملك ملوك الأرض وهادم عروشها، طوفان الغضب وفيضان الأمل، لكي كلمتي أن تصبحي محظيتي الأولي وان تعيش ابنتك في كنفك تحت رعايتي ، في حماية وعز ابرهة ملك الاحباش والسودان وكاسر العرب والعجم"

رمقته بنظرة احتقار سرعان ما  كستها بستار الريبة والتفكر قائلة "وماذا يمنعني أن يكون لي ولد من صلبك يرث قوتك وجبروتك ويستحق بهما أن يخلفك في عرشك؟" كست الفرحة الغامرة وجه الملك الشيطاني فاضحي باسم الثغر مبتهجه واندفع قائلا بنظراته الشرهة النازقة "وما  يضير؟ يسرني ويبهجني أن امنح خليفتي أما فاتنة مثلك فيضم اليه مع صفاتي العظيمة ملامح الملاحة والجمال وقوة البأس والشجاعة منها، سيكون أمرا رائعاً حقاً، وسأمنحك وعدي بمنحك هذا الشرف أيتها الفاتنة".

نظرت المرأة الي ابنتها نظرة اشفاق قائلة "يمنعني تلك الطفلة البائسة، هي من سيذكرني بماضي الذي سأهرب منه، هي من سيقف حائلا بين نفسي والتقرب اليك، هي من لن تصلح أختا لملك الاحباش القادم وأباه قاتل اباها، حياتها أمام كل ذلك أن يحدث تقف الحائل"

في لحظات كالبرق اسقط الملك الشيطان الحلوى من يده واستل سيفه الذهبي وبضربة واحدة رهيبة ومحكمة أطاح برأس البنت لتطير كالكرة وتسقط تحت قدمي أمها  الداميتين صائحاً "ها هي العقبة قد نحرتها علي مذبح عشقك وقربانا لكي عاهرتي الفاتنة، مري باي قربان اخر"

تجمدت الدموع الدامية في عينيها وقد ذاب قلبها ألماً وعذاباً لرؤية المشهد.

أتحت قدميها يحدث هذا؟

تعلم ما كانت مقدمة عليه، ولكن الواقع والتنفيذ شيء آخر.

أي جنون تفعلينه أيتها المرأة القاتلة المقتولة والجانية المجني عليها – يصرخ قلبها منهارا من كل جنباته – أفاستطعت ان تنطقيها وتجعلين أمقت خلق الله لكي يشطر وبأمرك انتي جسد اقرب خلق الله لي؟ كيف شعرتي بها حين حملتي وحين وضعتي وحين ضممتي اليكي وحين فديتي بحياتك؟ وكيف تشعرين الآن وانتي الآمرة بإنهاء حياتها التي لم تبدأ بعد بتلك البشاعة منقطعة النظير ؟

لطمة قوية تأتيها من عقلها هادراً في اعماقها "افيقي ايتها المجاهدة ؛ وازني بين معني الحياة ورمزية الموت، وازني بين حياتنا القصيرة في دار البؤس والتعب المسماة بالدنيا وحياتنا الأبدية في كنف الخالق الرحيم نحن ومن نحب في نعيم الجنة، جسدها المشطور الذي ترتديه في الدنيا تحت ناظريك يبدلها الله به جناحين تطير بهما في نعيم ابدي عند ربها وهي من يستقبلك ويفتح لك أبواب هذا النعيم، تذكري مصيرها حين تعيش معكي في كنف هدا الشيطان ان صدق وهو الكذوب المخادع، بأقصى الاماني الطامحة لحياة كريمة، ستعيش عبدة ذات خدن ومخدع لسيدها الفاجر وتسجد وتتعبد لكل ما هو دون الله وغيره، فتعيش الذل في الدنيا والجحيم الابدي بعد موتها.

ايتها المجاهدة – قارني بين حياتيكما الفانيتين وهدم بيت الله الحرام ، واحسمي امرك الآن ، خفف الله عنك وعن قلبك الدامي.

نزل الشيطان عن عرشه مقتربا من المرأة وقد ضاقت عيناه من الريبة ورمقها بنظرة فاحصة قائلاً بتؤدة "لم اسمع منكي شيئاً، ما ردك الآن؟" نظرت اليه وقد امتلأت حتي النهاية بكل جمود الدنيا في كل مشاعرها وقلبها ودمائها وأوصالها "لا ادري كيف أوفيك حقك علي كل ما فعلت"، قهقه الشيطان ملء شدقيه الكبيرين وتهللت اسارير وجهه العريض قائلاً "ليكن أي شيء منك يرضيني" ، لكن صاعقة المفاجأة ضربت وجهه فأحالته شيطاناً مذهولا كأنه الموات الماحق، حين جمعت المرأة كل المرارة والاحتقار الذي تختزنه له بداخلها في بصقة نارية ملأت برذاذها كامل وجهه وهي تقول بغضب الدنيا ومقتها "هاك جزء منه يسير" .

تعالت صرخات الشياطين الغاضبة من حلقه وهو يشهر سيفه بأقصى ما يستطيع ليشطرها طولياً، ولكنه توقف فجأة وبذات الوجه الشيطاني ذو الحدقتين الضيقتين قائلاً "مهلاً .. الموت مهما اشتد عذابه فهو رحمة مني لن تناليها، بل العذاب الأشر، بل العذاب الأشر ايتها اللعينة".

بذات نظرات المقت مع كامل الاحتقار له ردت "لقد قتلتني بالفعل أيها الشيطان الأبله، ولن تستطيع فعل المزيد " ختمت كلماتها بابتسامة باهتة وهي تغمض عينيها في سبات عميق غير شاعرة بسيفه البتار يمزق أوصالها ارباً.

تمت

-------------------------------------------------------------

الهمسة الرابعة ..

هبط الدرج مسرعاً وهو يعدل من هندامه ومنظاره الطبي الرائعين بالأساس، وزوجته اللطيفة ترمقه من باب البيت بنظرات الحب والاعجاب الممزوجين بالإجلال والتقدير قبل ان تهمس بصوت ضاحك "نسيت ان تعدل هندامك قليلاً" ، ابتسم لها الرجل الوقور المفعم بالحيوية قبل ان يرسل لها قبلة حانية في الهواء ويشير لها بتحية لطيفة بيده لينصرف بسرعة وعجل، تابعت بنفس نظرات الحب والاعجاب "حفظك الله ورعاك وسدد خطاك ووفق بالخير مسعاك يا حبيب القلب وشقيق اللب ورفيق الدرب، وردك لي ولأبنائك وسائر احبابك مشمولاً بعناية الحافظ جل وعلا، ما اسعد مكان انت قاطنه وما اسعد قلوب انت ساكنها"، ركب سيارته الفارهة القابعة امام منزله وانطلق لحال سبيله مسرعاً.

داخل السيارة الفارهة يتردد ترتيل آيات القرآن الكريمة، تسبح داخل السيارة بتناغم ناعم مريح مع سيرها المنتظم السلس، وقد ذاب فيها ومعها ذلك الرجل الجذاب وهو يردد معها ورده اليومي الذي يحفظه من القرآن المبارك مستغلاً وقته الثمين وهو يسير الي عمله، كان سيتلو ذكر سورة (يس) تيمناً بها في قضاء أمر هام له في عمله اليوم سيغدو نقلة عظيمة له في مسار حياته المهنية والعملية، فيضحي ميلاد جديد لنجاح من نجاحاته المبهرة التي اعتاد عليها طوال حياته، راداً الفضل كلية للخالق والوهاب جل وعلا وطالباً منه المزيد.

تصارع نفسه امران في البداية؛ يس لما قرئت له ، هكذا اخبر الحبيب المصطفي (ص)، فليشدوا بها صوتك العذب لأجل ما انت مقدم عليه من خير عميم، مستعيناً بالله ثم بسببها علي قضاء ذلك الامر لك. ثم يتلاطف معه أمر ثان ؛ وتترك ورد حفظك اليومي من القرآن والذي عزمت علي قضائه في الأوقات السانحة لك مثل هذا؟ ستتكاسل عنه بعد ذلك أيها العالم العبقري، وما هكذا تشكر نعم الله عليك بالعلم والمناصب الرفيعة وما حباك به من خير عميم يحسدك عليه الجميع.

حسم امره بسرعة واخذ يردد ورد حفظه اليومي من القرآن مطلاً بين لحظة واخري في نسخة القرآن الاليكترونية المفتوحة في هاتفه المتطور، مستمتعاً بعذب الكلمات والتي يشدو بها صوته الرخيم، حتي وقعت عيناه علي المشهد الذي اطار لبه وصوابه في ذات الآن.

عجوز متهالك فوق كرسي متحرك قديم كسته الدماء بلونها القاني وقد أحاط به ثلاثة مخلوقات آدمية الشكل تكيل له ما لا يقوي عليه بشر من اللكمات الطاحنة والركلات العنيفة والصفعات القاسية، فضلاً عن سيل متنوع من ألفاظ بذيئة بشعة تخدش حياء الغانيات، والمسكين بينهم يدفن رأسه بين راحتيه ويموت في صمت.

لم يأخذ الموقف أكثر من لحظة ليحسم هذا العالم أمره بالموت دون هذا الرجل البائس أو ينقذه من هذا القتل البشع، متناسياً كل شيء يربطه بهذه الدنيا، أوقف سيارته بعنف وقفز منها مسرعاً دون أن يوصدها، ولا أن يلقي بسترته الثمينة وساعته الفارهة بداخلها، كل ما تركه هاتفه يردد آيات القرآن داخل السيارة. يجري مندفعاً نحو هذا المشهد وكل كيانه يصرخ؛ ما قيمة النجاح والفلاح ان خنت مبادئي التي عشت لأجلها؟ بل ما قيمة الحياة ذاتها ان تركت هذا البائس يموت ظلماً أمامي واعيش بعده حي ارزق – دون ذلك الموت!

قفز العالم بين تلك الوحوش الآدمية كأسد هادر شره بين فرائسه، حائلاً بينهم وبين ذلك البائس فوق كرسيه المتهالك، غير عابئ بأحجامهم نسبة الي حجمه ولا عددهم ووقفته بمفرده، وأخذ يكيل لهم اللكمات البارعة ويبادلهم الركلات القوية، وكل رصيده من المعرفة بفنون الدفاع عن النفس هو لياقة اكتسبها من حياته الصحية المنتظمة التي عاشها، وعلم بفيزيائية وديناميكية حركات وعضلات الجسم اكتسبها من ثقافته واطلاعه وصبر وجلد علي الشدائد تربي عليهما منذ صغره.

برغم موقفه البالغ الحرج والتفوق التام لخصومه عليه لكن يحسب له جلده وصبره دون ان يمل من الضرب والركل، بل ونجح بالتترس بجسده بين تلك الوحوش وبين هذا الجسد الفاني، لكن عيناه جحظتا بكل ما اوتيت من دهشة واحتقار وهما تشاهدان ذلك النصل الصدئ الغادر وقد اخترق جسده من الخلف وذلك البائس القابع علي كرسيه يمسك به بكل قوته وهو يردد بأنفاسه المتقطعة ودمائه القانية "أيها الإرهابي الشرير، أيها الكافر عدو الوطن، أيها اللعين خائن العهود"!

للحظات لم يتمالك ذلك العالم عقله من هول الصدمة فلم يشعر بأي شيء حوله، ولا بالنصال الحادة التي تمزق جسده أشلاء، اطلق قهقهات عالية ملأت الدنيا حوله بمرارتها وسقط في دمائه أرضاً وغرق في سبات عميق.

تري من هنا يستحق الحياة ومن لا يستحقها؟!

------------------------------------------------------------

الهمسة الخامسة ..

بين ضفتي نهر

سطعت الشمس علي ظهره العاري وشعره المجدول وهو ينظر من فوق حافة النهر الي الضفة الغربية منه، بسرواله الخشن الفضفاض ونظراته الثاقبة القوية، من بعيد علي الضفة الغربية تتبدي له المروج الجميلة الخلابة بكل ما تحويه من بهاء وجلال ودقة وتنسيق، وبين هذا الجمال الخلاب تطل عليه تلك الاميرة الفاتنة بهالتها الوضاءة وتاجها الذهبي الصغير، تلوح له بكفها الدقيق فيرد لها التحية فتختم اللقاء بقبلة في الهواء ترسلها له عبر النهر ثم تنصرف لشأنها تاركة اياه حائر القلب مسلوب اللب وقد ملكت عليه شغاف قلبه وسائر جوارحه؛

هل تحبني تلك الاميرة؟ ام انها تعامل سائر رعاياها بتلك الرقة والحنان الفياضين؟

ولكني لست من رعاياها ولن اكون، فان كانت هي اميرة الضفة الغربية من النهر بتاجها الذهبي اللامع، فانا سلطان الضفة الشرقية والمهيمن عليها بسروالي القصير البالي وشعري الخشن المجدول وقوتي التي ادرك وحدي مداها.

كاد الامر يكون حلما خلابا يتكرر كل صباح علي اشراقة الشمس باشعتها البيضاء علي وجهها الباهي، لكن ما حدث بالامس كان مختلفا تماما عن المعتاد، لقد اشارت اليه بيدها ان يعبر النهر، وبعد ان انصرفت عادت بعد قليل لتشير اليه نفس الاشارة بشكل مباشر لا لبس فيه!

انها تريدك ان تعبر اليها يا ابا الحسن!

لا اظنها بحاجة الي مزيد من الخدم، وان كان فقد غرها مظهري ويجب ان تعلم جيدا قدري، ولا اظنها بعزها وسلطتها تفتقر الي فرسان لحمايتها وهي ما هي بهيمنتها وسلطتها علي رعاياها.

الاحتمال الابعد لي انها تحبني لذاتي، بسروالي القديم وشعري الخشن ورمحي القصير.

فعلام تحبني ؟!

لم يملك امام هذا الا ان يتبع هدي قلبه ويسير علي هواه كاعمي تقوده بصيرته، واخذ يعد عدته لعبور النهر بقاربه الصغير وقد اعلن للجميع عن قراره ول يستمع او حتي يأبه لأي رجاء بالبقاء لإحتياجهم اليه او وعيد بحرمانه من سلطانه او تهديده وتخويفه من مصير غامض ينتظره علي الضفة الاخري من النهر.

كان اثناء ذلك منذ صباح امس الي اليوم يشيح بنظره الي الضفة الغربية للنهر ويطيل النظر احيانا وهو شارد الذهن مفكرا؛ هل هذه مغامرة تحمل الكثير من المخاطر فعلا ام انها رحلة الي السعادة والراحة؟ لكن هوي قلبه ينتصر ويعود الي استكمال استعداداته التي لم تتوقف حتي انتهي منها عشاءا وبات ليلته ساهرا يفكر وهو قابع علي ضفة النهر ينظر الي الضفة الغربية في حيرة، حتي صافحته اشعة شمس الصباح الذهبية معلنة له عن اذن البدء في رحلة العمر، رحلة العبور من حياة الي حياة اخري يحلم بها ويرغبها ويتمناها، هو بطبعه مغامر عنيد تتملكه روح التحدي، لكن ربما تكون تلك المغامرة هي اكبر ما يكابده في حياته من مغامرات ومخاطر، وربما كانت هي الاخيرة أيضا!

في لحظة خاطفة قفز داخل قاربه الممتلئ باغراضه التي حملها في رحلته، وامتشق حسامه الصغير، وبضربة قوية قطع الحبل الذي يربط القارب بالشاطئ وكأنه يقطع بها كل ما يربطه بتلك الضفة استعدادا وتهيئة لنفسه لخوض غمار معركته الكبري والاخيرة.

لم يستمع لبكاء اهله وعشيرته رجاء وتوسلا للبقاء، ولم يلق بالا لأصدقائه واحبابه وهم يرجونه البقاء ولا يترك ما وصل اليه بينهم من حب وتقدير وتقديم في كل شئ، ولم يأبه لحضور كبار القرية اليه وطلبهم منه البقاء مقدمين اغراءات له بالسؤدد والقيادة لم يحلم بها احد هؤلاء السادة.

لم يستمع الا لنداء قلبه ولم يري الا الضفة الاخري ولم يدر في مخيلته الا مشاهد حياته المستقبلية كيف ستكون وكيف سيحياها، باختصار لقد ترك دنياه تماما لأجل عيناها، فهل ستحسن وفادته؟!

سار القارب يمخر به تيار النهر الجارف، هو بحار ماهر ويعلم تماما كيف يروض ذلك النهر مهما علا وتجبر لكن احساس بالرهبة جعله يسير بالقاربب في صمت وقد ثبت ناظريه الي الضفة الغربية متأملا وسارحا بخياله؛ كيف ستكون مجريات حياته هناك؟

لم يكن العبور صعبا بالنسبة له ولا تيار النهر الجارف وجنادله عائقا ورغم ذلك كانت رحلته طويلة نسبيا، اقترب القارب من الشاطئ شيئا فشيئا، حتي كان علي مسافة مناسبة للمشاهدة توقف به واخذ يتطلع الي الجنة التي يمني بها نفسه بان يحيا بها ما بقي له من العمر.

كانت كما تخيلها جنة حقيقية تحوي من النعم اكثر مما تمناه وتخيله او حلم به؛ وجد من يقوم بالخدمة يرتدون ثيابا وحللاً لا يرقي الي بهائها وجمالها ورونقها ما يرتديه اغني وارقي سادة قريته، ومن بينهم لمحها!

هالة ضوئية تسير بها فاتنة أبدع الخالق جل وعلا في صنعها، وكأنها حازت مثل جمال كل بنات الانس والجن لتتفرد، وكأنها تحكم مملكتها بسلطان جمالها فحسب، وكأنها ربة الجمال لهذا الشعب التي لا تعبد من دون الله!

كانت تسير بين الورود والازهار المتنوعة الاشكال والالوان وكأنها تمنحها النضارة والحيوية فتضخ في الجو المزيد من العبق والعبير وتصير اكثر اشراقا وبهجة، كانت تسير بين رعاياها مصدر للبهجة والسرور لهم، وتتبادل معهم التحية والبسمات العذبة، فغدت تعليماتها واوامرها لهم رغبات واماني لرعاياها وخدمها يتنافسون علي تحقيقها كل قبل الاخر سعيا للفوز برضا تلك الاميرة، ثم لمحته!

بقامته الممشوقة مثل رمحه القصير، ببشرته القمحية الممزوجة بلون اشعة الشمس الذهبية في تناسق بديع اللون، ونظرته القوية الثابتة من المحيا الجميل الي حباه الخالق به، فهشت له بيدها كأجمل ما تكون التحية والترحيب، وتومئ اليه بأن يقترب وياتي اليها.

لكن ملامح الدهشة والصدمة امتزجت في تفاصييل وجهه وعيناه حين ظهرت له تفاصيل غريبة في المشهد لم يلحظها من قبل جعلت الصدمة والذهول علامات بارزة لقسمات وجهه؛ رأي الاغلال الغليظة تكبل اقدام الخدم فتحيلهم اقنانا يرزحون في العبودية لا خدما لدي سيد عادل رحيم يحيون في كنفه، لمح الآلآم القاسية في وجوه الخدم وعيونهم والتي تتبدل الي بسمات مصطنعة حين تحضر فاتنته المتوجة، والاصعب من ذلك ما وجده في تلك الفاتنة ذاتها؛ وجد عينان حادتان غير التي حلم بهما، ووجد أنامل مدببة تتنافي مع الرقة المتوقعة من صغرها وخفتها، ووجدد الابتسامة العذبة تخفي وجها قاسيا وملامح جافة حين يتبدل وجه الفاتنة من الفرح والبشر الي الغضب بصورة لم تدر في خلد ذلك المغامر ولا مخيلته.

في المجمل وجد حياة اخري مغايرة كثيرا لما توقعه او حلم به، وقد بات ضحية خداع اوهامه واحلامه – وقلبه!

أحس الرجل بالخديعة فتحسس تلقائيا خنجره المضاء وجمدت قبضته علي رمحه ذي النصل الحاد كمحارب وقع في فخ ويستعد لأحد الخيارين النصر او الموت بشرف دون الاسر وذله، لقد عقد عزمه علي احد سبيلين؛ اما ان تاخذ بيده وترفعه علي العرش بجوارها كشريك وليس بتابع ووقتها سيركع امامها حباً وكرامة مقبلاً يدها كأقرار بخضوعه لسيادتها، أو تظهر له نوايا أخري بضمه لجوقتها وحاشيتها كقن جديد أغوته فأتي من البرية غراً مغررا به ولحظتها سيرشق ذلك الخنجر في صميم قلبها جزاءاً وفاقاً، وليكن ذلك آخر عهده بالحياة.

ووقف في منتصف قاربه – ينتظر الاستدعاء!

                                                                     تمت

---------------------------------------------------------

الهمسة السادسة .. 

خرج مسرعا وقد صفق الباب خلفه، حاملاً علي كتفه ما  خف حمله من متاعه، كأنه بخروجه يهرب من احزانه التي تراكمت علي نفسه وأدمت صميم فؤاده، وكأنه باحكام غلق الباب يوصد الطريق علي تلك الذكريات الاليمة التي تعتصر قلبه والتي كان أشدها وأقرعها عليه وفاة امه؛ الانسانة الوحيدة من بني البشر التي تربطه بذلك العالم، لقد عقد العزم علي مغادرة تلك المدينة الساحلية بكل ما تحمله لها ذكرياته من أفراح وأتراح، عقد العزم علي الهروب منها الي آخر بقاع العالم ان استطاع.

 ولكن أين؟ لا يدري!

لم يشعر بنفسه وهو يسلك الطريق الطويل الي ميناء المدينة الصغير، لم يشعر بمن كانوا يلقون اليه بالتحية والسلام ثم ترتفع حواجبهم دهشة من اهماله لهم ولم يعتادوا منه ذلك قط، البعض التمس له العذر من الحزن المرتسم علي وجهه والبعض الآخر لم يجد تفسيرا لذلك يقنعه، لم يشعر بالكرة التي ارتطمت بظهره من الصبية الذين يلعبون في الطريق ولم يسمع حتي لإعتذاراتهم، لم يشعر حين وصل الي مرساة الميناء ولا هو يصعد الي السفينة الراسية عليها دون حتي ان يعرف أكانت قادمة للتو الي الميناء أم راحلة عنه، وكأنه ينتمي بجسده فقط الي هذا العالم، أما روحه وكيانه فأسري لعالم آخر.

لم يشعر حتي بالسفين وهو يمخر عباب الأمواج المتلاطمة معلنة بدء رحلة المجهول بالنسبة له، حيث لا وجهة محددة يقصدها ولا بر محدد يرسو عليه، لم يشعر إلا بهياج الأمواج المضطربة تضرب بعنف جسد السفينة الضعيف، وما هي الا لحظات حتي وجد نفسه بين الأمواج نفسها يصارع الغرق من فوق لوح خشبي طاف وقد تشبث الفتي به  تشبث الغريق بالحياة، لكن سرعان ما غاب عن الوعي وقد أدرك انها النهاية، ربما كانت بالغرق يا هذا ولكنك كنت الحي الميت علي كل حال! حدث نفسه بهذا قبل أن يدور عقله في دوامة عميقة وانتهي الأمر.

بصيص من ضوء ضعيف بدأ يقترب منه في عالم الفناء الحالك الظلمة الذي يحيط به، مع ازدياد الضوء واقترابه بدأت تتكشف له معالم عالم جديد، ضوء النهار يسطع في المكان وسماء صافية تغطي مرأي عينيه وهو متمدد علي ظهره فوق رمال ناعمة لشاطئ بحر.

أحياة أخري تلك أم قيامة من موت؟

نهض من رقاده بصعوبة وقد أدرك أنه لا زال حياً، ولكن أين؟ أخذ يتلفت حوله ويجول ببصره في الشاطئ الكبير الحاجز بين أمواج البحر وأشجار غابة صغيرة تخفي غموضاً مخيفاً برغم جمالها الظاهر.

ولمحها بطرف عينيه..

خيال خفيف لفتاة تماهت ملامحها ولونها مع ملامح وألوان أشجار الغابة التي تحجبها عن العيون، سرعان ما تبدد التموه وهي تخرج من بين الأشجار وتتجه اليه بتردد وحذر، ليجد جنيه شهباء قد غطت القسوة والجلافة والبدائية ملامح الأنوثة الفياضة بها، ترتدي ما لا يستر جسدها اللامع وقد كسي الحذر والترقب وجهها البدائي، واعتلي جدائل شعرها الطويل اطار من فروع الأشجار معلناً سطوتها وسلطانها علي تلك الجزيرة وكأنه صك ملكيتها لها.

اقتربت المليكة الشهباء منه ببطء واخذت تدور حوله وهي تتفحص كل جزء منه بعينين قويتين، وهو يدور معها بعيون مذعورة ومترقبة قويتين، وهو يدور معها بعيون مذعورة ومترقبة لا تدري ما يخبئه القدر أو يحمله من مفاجآت، بدأت تتلمس وجهه وجسده من بين ثنايا ثيابه الممزقة وكأنها غير موقنة بأن هناك من يشبهها من الخلائق، ولم يمانع أو يتهرب لتطمينها، ولكن سرعان ما اعتراه الدوار والإعياء فسقط غائباً عن الوعي.

أفاق الفتي علي أصوات الطيور المغردة فوق الأشجار تظلله وكأنها تعلن له بانه اكتفي من النوم العميق وقد استعاد نشاطه وقوته، نهض من رقاده واتكئ علي جذع الشجرة التي تظلله يتطلع الي الهدوء من حوله؛ وجد بعض الظباء والماعز تأكل أرض عاشبة وهي تتطلع اليه في ترقب وحيرة وكأنها تقول لنفسها "أتراه كائن عشبي مثلنا سيزاحمنا الغذاء أم هو كائن حي سنكون نحن غذاؤه".

ضحك الفتي بوهن وخفوت حين عن له ذلك الخاطر، ثم سكت عن الضحك حين لمح المليكة الشهباء تجلس علي احدي ركبتيها في وضع اشبه بجلسة ذوي الهمم والنشاط وقد امسكت ظبية صغيرة تداعبها وامها بجوارها تستمتع بطعم العشب وهي آمنة تماماً ومطمئنة علي نفسها ثم علي ابنتها بين يدي ملكة الجزيرة وجنيتها الشهباء كما اطلق عليها الفتي.

مجرد أن لمحته أتت اليه هاشة متهللة الأسارير باسمة الوجه وهي تحمل الظبية الصغيرة بين ذراعيها في دلال، جلست بجواره واخذت تمسح علي شعره وجسده بحنان، ثم سرعان ما تركت الظبية الصغيرة واخذت تمرر يديها علي كامل جسده وتعامله كأنه رضيعها وهو جالس مستمتع بها وبالأجواء من حوله والهدوء الذي يعشقه، ثم تركته الجنية لبعض الوقت وسرعان ما عادت تحمل الثمار الشهية بين يديها واخذت تطعمه بيديها وتمسح علي شعره بحنان، معلنة بدء مرحلة جديدة في حياة هذا الفتي.

تشابهت الأيام والأوقات من حول الفتي وهو بين يقظته ونومه يغط في روتين قاتل جعله الميت الحي؛ يصحو من نومه مع شروق الشمس ويتجه الي الشاطئ حيث الأمواج العالية والبحر الممتد علي مرمي البصر يستلقي علي الصخرة العالية يستمتع بذلك الجو البديع وهو يلحظ جنيته من بعيد تتلصص عليه بينما تحضر له طعامه، ثم تأتي اليه بين فينة وأخري لتقضي معه بعض الوقت تشبع فيه حاجاتهما الفطرية من طعام وخلافه ثم تتركه لشئونها دون أن يغيب عن ناظريها.

كانت الحارس والسجان في آن واحد؛ فمثلما كانت العين المراقبة له كانت العين الحارسة أيضاً، لن ينسي ذلك اليوم الذي كان يغفو فيه علي الرمال في ظل شجرة الجوز ويصحو علي أزيز سهم يشق الهواء ليستقر بجانبه، ولما انتفض من غفوته وجده وقد رشق في رأس ثعبان كبير بالقرب منه وقد ثبت الثعبان كالمسمار في الشجرة ووجدها تقف علي بعد منه في وضعية المحارب وقد علت البسمة وجهها فرحاً بمهارتها وانقاذها له من ذلك الخطر المحدق، كذا لم ينس لها حين نهرته ذات مرة لأنه لم يأكل جيداً ثم اضجعت معه بقوة وكأنهما قد تبادلا أدوارهما أو كأنه قد أوجد وأتي للجزيرة لإشباعها!

لم ينس لها حين خلعت تاجها العشبي العفن والبسته إياه ثم انحنت الي قدميه تلثمهما، وأيضاً لن ينس لها حين نهر ظبائها وماعزها ليبتعدوا فأمسكته من شعره بقوة رهيبة كادت تقتلع بها فروة رأسه.

عدا تلك اللحظات الشاذة كان الملل والروتين القاتل هو سيد الوقت الذي يمر حتي غروب الشمس حين يعود الي كوخها داخل الغابة ليجدها قد أوقدت النار وأعدت الطعام ليتناولاه سوياً ثم تندس في احضانه كما يندس المرؤ في سريره الدافئ، وبالطبع لا تنسي استعمال الفتي كذكر لها!

تمر الأعوام علي الفتي دون  أي تغيير، عدا الشيب الذي يسرح بتؤده في خصلات شعره، وأطفال تخرج من رحم الجنية تحمل له صفة الأبناء، عدا ذلك اليوم والشهر والعام نسخة كربونية من سابقيه، حتي خرج كعادته الي الشاطئ مستشعراً بإحساس مختلف كأن هناك جديد سيحدث اليوم، ليس بسبب الغيوم التي تلبد السماء من فوقه، ولا بالرياح التي تعصف بأمواج البحر فتحيلها تلالا عالية، ولكن لإحساس يخاطر نفسه قائلاً " اليوم مختلف وفارق في حياتك".

من فوق الصخرة العالية رآها وهي تجول بين الأمواج العاتية ببراعة وقد ثبتت ناظريها نحوه؛ جمال لا يفوقه الا جمال وروعة عينيها، بشعرها الأسود الفاحم الهائج مع تقلبات الماء ومحياها الوضاء الفتان خطفت قلبه ولبه فصارا أسيرين لها، حتي زعنفتها السماوية وجدها متناغمة مع ذلك الجمال الأخاذ.

ربما اشارت له بيدها وربما هيئ له، لكن ما صار موقنا به أنه لن يطيق الحياة بدونها لحظة، وربما إن ذهبت لن تعود، كان هذا الخاطر الأخير كفيلاً بأن يجعله يجري الي البحر بأقصى ما يستطيع مسقطاً تاجه العشبي، ويقفز الي الأمواج الهادرة بكل ما يملك من قوة فيما يشبه الانتحار ويغوص الي تلك الحورية الفاتنة ليلتقط يدها بكل رقة الدنيا وحنانها، غير عابئ بجنيته الشهباء وصرخاتها من علي الشاطئ ولا بسهامها النارية التي تطلقها نحوه لعلها ترهبه وتعيده اليها او تصيب صميم فؤاده فلا ينتفع به غيرها كما حرمت هي منه، ولا بأبنائها منه وهي تمسك بهم وتلقيهم في البحر الهائج دون أدني عاطفة او شفقة لعله يخشع ويرجع!

أيسمي هذا حب أم رغبة في التملك؟ هل الحب هو امتلاك ما نحب أم الرغبة في اسعاده وضمان سعادته؟

ما هذا بحب!

التفت الفتي الي عروس البحور الفاتنة وقد حدد بوصلة مصيره وحياته، لم يفكر في مخزون الاكسجين الذي ينفذ في صدره، لم يفكر فيما هو مقدم عليه من مجهول، لم يفكر كيف سيعيش في تلك الحياة الجديدة والغريبة عليه، ولا في ملكه الذي القاه خلفه ضمن حياته المميتة، لم يفكر في مليكته العاشقة وجنيته المجنونة، كان ضياء عينيها قد ملك عليه كل شيء فيه فاستسلم في هدوء وامسك بيدها وغاص معها.

الي أعماق المجهول.

                                                تمت



تعليقات

المشاركات الشائعة