مجموعتي القصصية الثالثة ""احرار في اسر العبيد"

 

أحرار في أسر العبيد

 



 


ali sho ali

 


الاهداء

الي من قالوا

" والله ما كتبنا ولا نكتب الا اليك  "

ماشي !

وانا كمان !!!

 

 

  

الارنوب

من فوق الصخرة بالأرض القاحلة، تسيل دماؤه عليها قانية لامعة تحت اشعة الشمس، ربما لا يشعر بآلام عظامه المحطمة بسبب فقدانه الإحساس مثلما فقد الحركة، يري بطرف عينه الثعلب يقترب في حذر كمن يتربص به خشية ان يهرب منه.

لم يكمل الارنب ضحكته لضيق صدره المحطم وهو يقول لنفسه اقترب أيها الثعلب الوافر الحظوظ، ها قد ساق اليك القدر ارنبا ضخماَ فحلاَ سيسد جوعك واسرتك لوقت طويل، صيداً سهلاً لن يقوي علي الهرب منك فلا داعي لكل هذا الحرص.

شارف الثعلب علي الوصول اليه حين اتاه الصوت متهدجاَ "اقترب أيها الماكر المحظوظ، لن اقوي علي الهرب منك، اقترب مني"

دار الثعلب حول الارنب المحطم نصف دورة قبل ان يتواجها، ابتسم له الارنب في وهن وقال "لا عليك أيها البائس، اتفهم ما تنوي فعله بي، لكن اسمع مني ما يستفيد منه عقلك من تجربتي مثلما سيستفيد به جسمك من لحمي.

كنت منذ سويعات ملكا غير متوج بين بني جنسي، محظي عند مالكي، كان احبائي ينادونني بـ "لولي"، كنت فحلاَ بين الارانب دوره الاستمتاع بالطعام الوفير والشمس الوارفة الاشعة واستيلاد الارانب من الاناث في مخدعي الملكي النظيف.

كنت أقوم بمهامي كلها علي اكمل وجه في رتابة واقتدار حفرت مكانتي التي ذكرت لك بين اقراني، لكني كنت اسير احلامي وطموحاتي؛ كنت احسد ذلك العقاب في مرتفعه الشاهق علي سكنه في الاعالي برغم البرد القارس هناك، كنت احسده علي جوعه مقابل سعيه للحصول علي الغذاء، كنت احسده علي حرية تنقله بقراره وارادته بينما انا حبيس مخدعي الملكي وكأنه سجني لا مقر اماني وحمايتي من ذلك العقاب وغيره.

لا ادري ان كان من حولي اسري خدمتي ام انا اسير قفصهم الذهبي!

طمحت يوما في مكان العقاب الكاسر ومكانته، غلبني الحنين الي الأيام الخوالي حين كنت ارنبا رشيقاَ مغامراَ مقداماَ، لا ترهبه كواسر الأرض ولا السماء، بل كنت اتحداهم وأهين قدراتهم، تقت الي الجوع والسعي الي الطعام وان قل كما وجودة بدلاَ من علفي باجوده حتى الثمالة، تقت الي الارتجال في التفكير بدلا من الرتابة المملة في الاعمال اليومية، تقت الي الحرية بمخاطرها عن العبودية المقنعة.

قررت خوض تجربة الحياة كما اتمناها، قررت خوض المخاطرة للصعود للأعالي عن الرتابة والدفن في ذلك القفص المهين لحريتي، قررت وضع جسدي تحت رحمة مخالب ذلك العقاب الشره للدماء وان ادعي غير ذلك، رغم تودده ونظرات العطف في عينيه التي خدعت بها لكني اكتشفت لاحقاَ انه طالما كان تواقا لجسدي، ولكن بعد فوات الأوان. قررت ذلك الصباح الخروج من قفصي الذهبي لينقض علي ذلك الكاسر من عل ويحملني الي جنتي الموعودة بالاعالي لديه، كنت اعلم بخطورة ما انا مقدم عليه فلم آبه لصرخات اناثي وتحذيرات خدمي الاسياد، ولم اعر بالاَ لخطر مخالبه الحادة التي يحرص علي زينتها وجمالها، فمنظره البرئ لم يوحي بتلك القسوة، لكن التجربة خير معلم!

تحملت الألم من مخالبه وهي تنهش جسدي، صبرت علي حدة منقاره الرهيب وهو ينهش لحمي وكرامتي، لقد استسلمت له ولم اقاومه ظناَ مني ان هذا رد لجميله في اخراجي من سجني الي جنتي الموعودة، وحبا له واجب علي ان اضحي لأجله، فلم اضن عليه حتي بقطع من لحمي وعذابات ايلامه لي، وليتني ما فعلت، كان كاسراً افاقاَ غادراَ وخائن لكل العهود، لطالما مناني في رحلة صعودنا بحياة جديدة، لطالما عشت أحلام الامل التي كان رفيقي بها في الاعالي، لكن ما ان عن له صيد آخر كبشا مليحاَ فحلاَ اوفر مني حظاَ في الحجم واللحم حتي تخلت مخالبه عن جسدي فهوي من عل الي ذلك الوادي السحيق ومعه احلامي وامالي، وتحطم كلاهما معه فوق تلك الصلدة الصماء، واضحيت ها انا ذا صيدك السهل الثمين".

 بدت الحيرة في عيني الثعلب قرأها الارنب فخاطبه قائلاَ "أيها الثعلب البائس، لا عليك في ان اضحي وجبتك، لم ولن اطلب منك تركي، من توقع رحمة من عدو فهو احمق ومن طلبها فهو سيد الحمقي، ولكن ان اردت ان تصنع معروفا تباهل وتفاضل به بني جنسك من اللئام فلتقتلني أولا كي لا تزيد عذابي بعذاب، ساعتها لن يميز جسدي بين ربت راحتك ونهش مخالبك وانيابك.

اراك في الجحيم."

وراح في سبات عميق.

 

 

 

 

 

 

 

المحاكمة

بين الحراس يقف بتجلد وشموخ، حريص علي الا يظهر منه وهن او الم ينهشانه يثير شفقة او شماتة جلاديه، يعلم يقينا راسخاَ ان تلك اللحظات الأخيرة من حياته هي ترجمان لكل المبادئ التي آمن بها وجل النضال الذي جالد فيه طوال عمره المنقضي، لم تكسره شيخوخته مثلما لم تحنيه او تثنيه قسوة وفجر اعدائه.

كان رمزاَ وحرص علي الا يموت الا رمزاَ.

دوي صوت القاضي داخل صالة الإعدام كمن يحاول ان يرهبه "ها انت أيها البائس التعس تقف تحت رحمة سادتك وستنزل مرغماَ لحكمهم، ماذا نفعك عصيانك وتمردك وتاليبك للناس عليهم وهم أصحاب افضال علينا في مدنيتنا ورفاهيتنا؟ الإعدام هو الحكم المكافئ لجرائمك، والرحمة هي امل لا تستحقه. ولكن رغم ذلك، يتمتع سادتك بشفقة حرمك الله من التخلق بها، لقد ارتضوا وبعد الحاح باعتذارك عما بدر منك ليكون تكفيراَ عن جرائمك ويستتبع عفوهم عنك".

بدت علي وجهه ابتسامة تجمع بين الشحوب والسخرية وهو يقول "وما المطلوب؟"

اضطرب القاضي في وقفته وقال "كما قلت لك، تعلن الان امام مندوبيهم الحاضرين وبلغتهم اعتذارك عما بدر منك وانك تستحق العقوبة لكنك تطلب منهم العفو، وانا اعدك بان احصل لك علي ذلك العفو شريطة الا تعود لمثل افعالك السالفة بحقهم".

اعتدل الرجل في وقفته فازداد امتشاقا وحماسا وتحول الوهن البادي فيه الي قوة ثم قال "لقد سمعت منك يا حليق الراس والفكر ويا فقير الشارب والخلق الحسن، فاسمع مني.

هؤلاء الاوغاد ممن تدعوهم بسادتك في نظر امثالي لصوص غزاة أتوا الينا لسرقتنا ونهبنا ولم نذهب اليهم، فحقيق عليًّ مقاومتهم واقضاض مضاجعهم وليكن ذلك دين في عنقي ومنهج لما قد يتبقي من عمري ان كان، وما فعلته حتي الان وعدا مني ان يكون فيما بقي لي من انفاس غيض من فيض".

نظر اليه القاضي بغضب الدنيا وقال "امصر علي عنادك أيها الـ..." لكن هدير صوت الرجل اخرسه قائلاَ "قلت لك اسمع ولا تقاطعني ثانية.

لتعلم ايها القن التعس ان الحياة التي تظن انك تحياها هي اصعب علي قلبي وامر من الموت الذي تعرفه، الحرية جنة لا تهفوا اليها قلوب العبيد امثالكم ولا تراها عيونهم، هي شرف وكرامة لا تستحقونها ولكنها الحياة الأمثل لنا مهما كان في العبودية المقنعة من مغريات.

أيها القن التعس، ان كنت واسيادك من مغتصبي حقوقنا وارزاقنا تظنون اني اسيركم فانتم واهمون، بل انتم اسراي ولكن لا تعلمون. وان كنتم تعتقدون انكم باعدامي ستحرمونني الحياة التي تحيوها فانتم غافلون، هي حياة ساحياها دون مواتكم هذا ولكن لا تفقهون.

أيها القن التعس، لتعلم اني ساذوق الموت مرة وانا مشتاق اليه، اما انت وامثالك فستحيون في الموات في كنف ذلك الذل والعار الذي يجللكم بعار الخيانة لمقدساتكم واوطانكم بين ظهراني سادتكم من مغتصبيكم ما شاء الله لكم من الحياة وتذوقون الموت منهم الف مرة ومرة.

أيها القن التعس، انما اتمثلك بالبيت القائل

تعسا لقن بالاغلال يفرح              ديدنه ذل وفي قيوده يرزح

اما انا فاراني

خلقت حراَ في ثوب عزه يرفل               كطير العقاب علي كل طير يفضل

شاهت الوجوه!

انه هذه المسرحية أيها الجلاد، فلقد مللت رؤية الوجوه العكرة"

اضطرب الجلاد وكأنها المرة الاولي له والتفت الي القاضي الذي كان اشد منه اضطراباَ وفرقاَ، نظر بطرف عينه علي استحياء الي الواقفين بجانبه فاومأوا اليه بالإيجاب فالتفت منكسراَ الي الجلاد وأشار اليه بيده لتنفيذ الإعدام.

تقدم الجلاد من خلف الرجل ووضع الحبل المجدول حول عنقه ثم دار حوله حتي التقت عيناهما، اندهش الرجل حين لمح الدموع في عيني الجلاد جلية من خلف قناعه الذي يرتديه.

عجباَّ! اتحوي تلك القاعة انساناَ غيره؟

همس اليه الجلاد في خفوت "استحلفك بالله قلها".

ابتسم الرجل اليه قائلاَ "اتحبني؟"

رد الجلاد بلهفة "اجل، فانت رمز في عيناي"

رد الرجل بحنو ابوي "اذن اترضاها لي؟"

تحجرت الدموع في عيني الجلاد واطرق الي الأرض ملياَ، ثم بكل حزن الدنيا والمها دفع بجسد الرجل ليتدلي من الحبل ويتارجح قليلاَ ثم سكن.

ساد الوجوم لبرهة ثم هم الجميع بالانصراف وكان اخرهم هو الجلاد الذي حانت منه التفاتة الي جسد الرجل المتدلي من الحبل، وجد في عينيه جحوظاَ متوقع، وعلي شفاهه ابتسامة المنتصر.

التفت اليه الجلاد وادي اليه التحية، ثم انصرف.

بهدوء.

 

 

كسير الهوي

يترقب من بعيد اقتراب المترو نحوه، ابتسم حين خاله احد المشاكل الحياتية التي تهاجمه وعليه مجابهتها، بجرأة اليائسين قفز بداخله حين فتح اقرب الأبواب اليه معلناَ بداية معركة يومه الجديد.

تسمرت نظراته المتجولة عليها وهي تجلس وتطالع هاتفها باهتمام مع بعض التمتمة الغريبة، تعجب من ثبات عيناه عليها مهما تجولت يمنة ويسرة، تري ما سر هذا الانجذاب؟ ايكون اعجاباَ ذلك الذي قاد اقدامه للسير اليها والوقوف امامها؟ ام تلك الابتسامة الرقيقة التي حيته بها حين نظرت اليه هي من سحرته؟

علي كل حال هي واحدة من الناس.

كلا، ليست ككل الناس، والا فلماذا ينزل من القطار ويسير خلفها وطريقه عكس طريقها؟ ولماذا يتابعها من بعيد وهي تشتري الشيكولاته من المحل؟ لماذا يشعر انها تعلم بمتابعته لها وهي سعيدة بذلك، بل وتحثه بذكاء حركاتها علي مواصلة السعي خلفها؟

فعلاَ، هي ليست ككل الناس!

فاجأته حين توقفت بغتة ثم التفتت نحوه وهي تنظر اليه، لم تتسمر قدماه ولم توقفه المفاجأة التي لم تجل بخاطره، وكأنها مغناطيس يجذبه، سالته حين التقت عيناهما

"لم تتابعني منذ كنا في عربة المترو ؟"

"لا ادري ولن اداري او اداور"

"اتراك معجب بشئ في؟"

"ربما، وربما اراني فيكي"

"انت اذن معجب بنفسك"

"فلتسميها ثقة بالنفس ان شئت الدقة، في الحقيقة لقد اعتقدتك واحدة كباقي النساء، ولكني اراكي غير"

"ربما لا تعرفني كما ينبغي"

قالتها بدلال فرد بابتسامة متلهفة "فلنتعارف اذن"

"اسمي حسناء، اعمل مضاربة في البورصة، واهوي التأليف"

"وانا علاء، كاتب مغمور، وبقايا انسان مدحور"

ازداد دلالها رقة وهي تقول "ابشر، ربما ساقني القدر اليك"

اتسعت ابتسامته "يسوق القدر الكثير"

"فلنتعارف، وبعد ذلك ستجيب نفسك عن سؤالك، وستعرف الإجابة عمن أكون"

"حسناَ، فلنسر سوياَ، لنسلك هذا الطريق حيث لا ترانا العيون، مالي اراه كجسر الاحزان؟"

"ربما تراه بقلبك ودواخلك، عن شخصي اراني مليئة بها وبتوأمها الهموم، حتي اضحيت ادمنهما"

ابتسم قائلاً "الم اقل اني اجدني فيكي؟"

"اجدني أسيرة في جسد اميرة"

"اراني امير في جسد اسير"

"تري ايكمل بعضنا البعض ويعالج كلانا ما يحتاجه الاخر؟"

"اعتقد ذلك، وساعتها سيربطنا باقوي رباط"

"فلنحتسي شراباَ في ذلك المنتزه"

***

حول منضدة صغيرة جلسا متقابلين تسبر كلا عيناهما عيون الآخر، كأن اللقاء بين عيونهم فحسب.

"ما الذي حملك علي الاعجاب بي رغم قصر عمر معرفتنا؟"

"هو من حملك انت ايضاَ علي الاعجاب بي"

"هل لاحظت ذلك؟"

"الصب تفضحه عيونه، وربما تبوح العيون بما تعجز عنه افصح الالسنة"

"الحق والحق أقول، لقد لفتًّ انتباهي اليك منذ دلفت من باب المترو الي داخل العربة، شعرت تجاهك بشئ غريب"

"وهل يرقي ذلك الاعجاب الي درجة الحب؟"

"من جهتي ام من جهتك؟"

"من كلا الجهتين"

"ربما، بل اجده ممكناَ، ولكن! أخشي من اقترابك مني ان تكتوي بناري، لقد عانيت واعاني من ظروف معقدة، وتجاربي مع الاخرين سبب لعذاباتي في الماضي، ووقودا لناري في الحاضر، واخشي ان تنصلي انت بها في المستقبل"

"الم اقل وجدتني فيكي! لكن لتعلمي ان ناري برداَ وسلاماَ لأحبابي ناراَ تلظي علي خصومي واعدائي ان وجدوا"

"لم نتناول شيئاَ، انني اهوي احتساء قهوتي الخاصة مع الشيكولاتة، اتحبهما؟"

"لن اغير من عاداتك بل ساندمج معها، فلتعتبريني جزءاَ منك احب ما تحبين واكره ما تكرهين، لكن شخصي لن يستطيع الذوبان في شخصك"

"لا بأس، اطلب لنا قهوة ولنتناول الغداء لاحقاَ"

تحتسي القهوة بهدوء وارستقراطية وهي تشعر به لا يحيد بعينيه عنها فابتسمت قائلة

"أو ستستمر في التحديق بي طويلاً؟"

"من الوجد والهيام ربما، وربما بحثاَ عن إجابة لسؤالي"

"ستعرفها حين تعرفني، لا تقلق"

"ما بال الوقت يعاندنا ويسابق نفسه"

"انه لا يعاند الا العشاق"

"افهم من ذلك انها مشاعر متبادلة واحاسيس مشتركة؟"

"فلتسمها بمسماها ان شئت، انه الحب"

"يا الهي! لقد ساقك القدر حقا الي، ليتني بدأت بك حياتي، لكن لا بأس، لقد ادخر الله لي الخير لأختمها بها، لقد انرتي كهف قلبي المظلم، اعاهدك الا يدخله بعدك احد"

"واعاهدك منذ الان الا تطلع شمس او تغرب الا وحبك مقرون بانفاسي"

"كفي بالمرء حظا ان يحظى بمثلك"

"ويكفيني من سعادة الدنيا ان اتمها بجوار من هو مثلك"

"اذن فليؤدم الله بيننا بالحب ما بقي في اعمارنا من الأيام"

فابتسمت بدلال وعذوبة وقالت "وما اشتهيه من طعام!"

***

مرت الساعات كالثواني لم ينقطع فيها حلو الكلام والطعام، وكأن السعادة قد اختزلت للقلبين في تلك السويعات.

"الن تمل من التحديق في عيناي؟"

"مثلما لم تملي من وضعي في اختبار تلو الآخر"

وتستمر ضحكاتهما، حتي رن الهاتف.

"ارد عليه ثم اعود اليك"

نهضت من امامه وهي ترد علي المتصل، لا يدري لم شعر بان ذلك الاتصال هو طائر الرخ الذي سيختطف حمامته الاثيرة، ازدادت حيرته مع تضارب المشاعر والمظاهر البادية علي وجهها بين الفرح والغضب وبين الابتسام لوجناتها والتقطيب لحواجبها، وبين الفينة والاخري تختلس النظر اليه دون ان تدري انه يلاحظها بكل جوارحه واهتمامه.

عادت اليه بغير الهيئة التي ذهبت بها، وجلست بغير الجلسة التي كانت عليها.

"ما بال اميرتي قد تبدل بها الحال الي غير الحال؟"

"هموم واحزان، ومصاعب شتي احياها"

"ولم خلقت المصاعب الا لكي نواجهها؟ ولم وهبت ترسي وحياتي الا لأخلصك منها واذللها ؟"

"اواثق من قدرتك علي الصمود والتحدي؟"

"انها حرفتي، فلتجربيني"

"لا، لا اعتقدك ستسعد معي، ولا اعتقدني ساهنأ بالعيش معك، يكفينا الصداقة كرباط لتلك العلاقة"

"والحب الذي تصارحناه؟ والغرام الذي تطارحناه؟"

"فلنحتفظ بطيب ذكراه"

اطرق في الأرض يفكر ملياَ وهو يعبث بمسمار في يده، لا يدري لم انقلبت الدقائق لأيام وشهور بعد ان كانت لحظات بالسعادة تدور.

"لا عليك يا علاء، فلن انساك ما حييت"

"أهو امير بحر جديد ظهر بحياتك؟"

"لنقل انه قرش مفترس يعتبرني حوريته الخاصة"

"وانت؟"

"حورية مسكينة تتقاذفها الأمواج في بحر لجي"

ارتسمت الحسرة والجدية علي قسمات وجهه وهو ينهض ويمد يده ليصافحها بقوة ويقول "عرفت الآن إجابة سؤالي، استمتعت بلقائك، سلام"

لم ينتظر حتي ترد عليه وتركها منصرفاَ، حانت منها التفاتة الي كفها فوجدت دماءاَ قد خطت عليها كلمة واحدة

"حقيرة"

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الغولة

لم يبد عليه الاضطراب حين تلاعبت الأمواج العالية بقاربه الصغير، فهو صياد والمغامرات والمخاطر منهج حياته، وما تعانيه نفسه من جروح وآلام تجعل منهما مسكناَ ينسيه ما يبارحه ويعانيه. لكن ان تكون مقدماَ علي مجهول حتي وان بدا تقليدياَ او عادياَ فهذا كان كفيلاَ باضطرابه وقلقه.

تقاذفته الأمواج اللعوب الي جزيرة نائية غامضة. مرحي أيها المغامر، تتشابه تلك الاحداث مع اخري مرت بمشاهير المغامرين أمثال السندباد وكروزو، ولكن هل تتشابه نهاياتها مع نهايات الاحداث التي انتهت بها مغامراتهم وحفرت أسمائهم في تاريخ المغامرات الشيقة؟ ام ستنتهي حياتك هنا دون ان يشعر بك احد وان ذكرت لدي احدهم صدفة فربما يقول "رحمه الله، كان هو المخطئ!"

ربما يغلب الظن الأخير، فالقارب محطم والمؤن ضاعت في البحر ومظهر الغابة والتلال الصخرية العالية التي تستقبله علي الجزيرة لا ينبئ عن إمكانية حياة لأيام، ومع وجود ضواري ومفترسات تنخفض فرص الحياة الي سويعات.

ما هذا الحظ العاثر!

لم تنهكه مصارعة الأمواج في مغالبة أنفاسه المتهدجة وهو جالس علي رمال الشاطئ، بل تفكيره فيما وقع له وما يتوقع ان يحدث له من احداث علي تلك الجزيرة الموحشة، كانت كل التوقعات بما فيها الغير ممكنة تدور في ذهنه وخاطره الا ان يري ذلك الوجه البشع الغريب اعلي ذلك الجسد الضخم يطل عليه من بين الصخور.

مخلوق اشبه بالغول الأسطوري في ملامحه وشكله، لكن ليسميه بالغولة حيث هو اقرب في تفاصيله الي الانثي. خرج المخلوق بحذر الخائفين من بين التلال الصغيرة، بدت نظرات الذعر والحزن في عينيها جلية مثلما هو الطوق الحديدي حول رقبتها وهي تقترب منه رويدا رويدا، لا تتناسب نظراتها وخطواتها المرعوبة مع حجمها وشكلها بالنسبة اليه، اهي طيبة وديعة حقاَ ام انها مرعبة ولم يعلم بذلك بعد؟

ومتي كان الوحش يظن نفسه وحشاَ؟       وكم من وحوش خدعت بمظهرها أناس!

تقدم اليها بتؤده وترقب حتي اقترب منها وخلع عنها طوقها، دارت حوله دورات عدة كصنم تتعبد له وهو يحتار فيها ويشفق عليها، ولا يدري أنه منذ تلك اللحظة التي خلع عنها طوقها قد وضعه في رقبته!

صارت محور حياته وخادمته المطلقة، وراحته ورضاه مطلبها وحلمها، لكن متي كانت الحياة الرتيبة مرضية لصياد مغامر وان كانت في عش ذهبي؟

بدأ وخز طوق الاسر يوجع الصياد مع ارهاصات السعي الي الحرية، حين حطمت له القارب بعد ان بدأ في إصلاحه، لقد ظهر الوجه الحقيقي لها ولحياته التي ظن نفسه فيها سيداَ حراَ فاذا به اسير حب تلك الغولة ورغباتها، وسجين جزيرتها وخدمتها.

في كل مرة تحطم الغولة قارب الصياد يتأكد له سجنه المخفي ويزداد تصميمه علي الفكاك، لم تفهم غولته العاشقة انها تنفره منها ومن جنتها بدلاَ من ان تكون جزيرتها مرفأ قاربه ومينائه وحضنه الدافئ وملاذه، لم تفهم انها قد تنجح في ابقائه اسيرها لبعض الوقت قسراَ لكنها في النهاية ستفشل ويطير اسيرها حراَ، ان لم يربطه بعشها الحب والرغبة في العودة.

انطلت حيلته عليها حين كان يسقيها من الخمر الذي عتقه بيده، فجعل من معسول الكلام والشراب مزيجاَ اسر عقلها، وخدعها بالطوف الذي كونه من بقايا القارب المحطم حين اوهمها انه سرير لمخدعها، كانت المشاعر لديه متضاربة بين الرغبة باحتضانها أو خنقها!

هبت نسائم الصباح علي الصياد مبشرة إياه بقرب قدوم رياح الخلاص التي ينتظرها كل يوم متمدداَ تحت الشمس الدافئة فوق الرمال الناعمة النقية. ابدلت البشائر كسله وخموله بهمة ونشاط بالغين فشرع من فوره يطمئن علي ما اعده للفكاك من الاسر استعداداَ للحظة المناسبة.

لمح الغولة تهرول اليه من بعيد فرحة سعيدة وبيديها الثمار الشهية والفاكهة الطازجة، نثرتها بين يديه وهو جالس واخذت تطعمه بيديها وتمسح علي قدميه ثم انحنت ولثمتهما بشفاهها، ترددت يده وهو يمدها اليها بالشراب المعتق، لكن الرغبة في الحرية دفعت بيده اليها، تناولته بشراهة وبدائية، وبعد ان انتهت منه انحنت ثانية علي قدميه تلثمهما ثم اضجعت برأسها عليهما وراحت في سبات عميق، كانت البراءة والبدائية باديين علي وجهها وهي تغط في نومها.

ليتك تفهمين قبل فوات الأوان.

انحني علي رأسها وقبلها في حنان ثم شده ببصره نحو البحر، ينتظر الأمل القادم، الحرية!

               

 

 

وصاح الديك

هبت نسائم الفجر توقظه قبل الجميع وكأنها تختصه بقبلاتها، داعبت في رفق ريشه الملون الكبير فدب النشاط في اوصاله وتقافزت به عضلاته لتوصله اعلي المئذنة فيصدح صائحاَ "اتي الصباح، هيا الي الحياة والعمل".

التقطت عيناه صورة غير متناسقة؛ ذئاب تقبع بين الحملان داخل الحظيرة، وقد تخفت وتماهت بينها بما يشكل خطراَ علي الحملان الغافلة، استشعر الديك الخطر وهب لنجدتها بقفزة واسعة مستغلاَ ارتفاع المئذنة تارة ورفرفة جناحيه العريضين تارة اخري حتي وصل سور الحظيرة، تواجهت عيناه بعيون الذئاب واستشعر كلاهما خطر الاخر عليه، ناور بكل مهاراته وشجاعته المعروفة عنه ليفلت من براثنهم وهم يحاولون نهشه دون ان ينقطع صياحه وصراخه "افيقوا ايتها النعاج الغافلة، الذئاب بينكم، الذئاب ستلتهمكم، أفيقوا".

لم يسمع صوته سوي الذئاب التي تتقافز لتنهشه من فوق سور الحظيرة وكادت ان تصل لهدفها مرات عدة لولا حماية القدر له، جازف للمرة الأخيرة بالهبوط الي مزلاج الحظيرة لفتحه بكل ثقله، مستغلاَ هرج الذئاب في سعيها للوصول اليه والتهامه، والحملان من حولها تأكل بنعاس وخمول وكأنهم في بعد زمني مواز او عالم آخر، نجح بعد عدة محاولات في فتح باب الحظيرة مستغلاَ غباء الذئاب في دفع الحملان للخارج او حتي ايقاظهم من غفلتهم، ونجحت الخطة، لكن الثمن كان قنص ثعلب ماكر شرس له.

ابتسم الثعلب له وهو ينظر اليه تحت قدميه، فبادله الديك بابتسامة اخري وهو ينظر الي الحملان المبتعدة وقال "يموت فرد ليحيا مائة فرد، ذلك فوز عظيم".

فوجئ الاثنان بالخراف تعود مسرعة الي الحظيرة وهي تحمل فوقها الذئاب التي تخلت عن التخفي داخل الاصواف، نظر الثعلب الي الديك شامتاَ فابتسم له الديك ثانية قائلاَ "لو امطرت السماء بالحرية لتستر العبيد بالمظلات، حسبتهم غافلون فوجدتهم مغفلون، يكفي الحر شرفاَ انه لم يكن يوماَ عبداَ".

 

 

 

 

 

هل ضاع العمر يا ولدي؟

تضفي عليه اشعة الشمس البيضاء التي تفترش المنطقة من حوله مهابة واجلالاَ علي مهابته وهو جالس علي كرسيه في صمت، كأنه ملك علي عرشه وحوله الخدم والاتباع يجيئون ذهابا واياباَ من حوله، لم يدر بخلده للحظة انه معاق الحركة محدودها بينما تدور الناس من حوله من كل الاعمار، هو يعلم تماماَ ما هي الإعاقة الحقيقية وليست التي يراها سطحيو التفكير، هو يعلم قدر طاقته ونشاطه وان سكن جسده وقل كلامه، فهل يعلم ذلك من حوله ممن يبدون له نظرات التعاطف والشفقة احياناَ ويحاولون تقديم يد العون له؟ هل يعلمون كم هم يشغلون همه وتفكيره ويمثلون بارتباطهم به عائقاَ حقيقياَ وليس معيناَ كاملاَ؟

لا شك مشكور ذلك الاهتمام ومقدر من شخصه ولكن، هلا سالوه عن الوسائل الناجعة لافادته وعونه كما يراها هو لا كما يرونها هم؟ هل يمكن ان يتحول ذلك الاهتمام الي اغلال وقيود بالنسبة اليه؟

ربما!

"ابي، هل تريد شيئاَ"

"شكراَ حبيبي، هل انتهيت من مذاكرتك؟"

"بالطبع يا ابتي! بمجرد ان انهيت صلاتي وراجعت ما علي حفظه من القرآن قبعت علي مذاكرتي حتي انهيت كل ما علي ويزيد"

"غريب ذلك، كل معلموك لم يذكروك لي الا بالاهمال في المذاكرة وانهاء واجباتك التي تكلف بها، وبعضهم ابدع في تصوير شقاوتك المتزايدة يوما بعد يوم حتي خلتهم كانوا يقصدون المدح ولكن أخطأوا التعبير، لكنهم اكدوا علي ما قالوه حتي ان احدهم وهو صديق لي طلب مني ان اعفيه من التدريس لك، أما عن سلوكياتك المنزلية فحدث ولا حرج مما تصفه امك وشقيقتك، هل هذه هي المساعدة التي تقدمها اليِّ؟"

"اقسم لك يا ابي أني ...."

"لا عليك من الايمان الكاذبة لتبرير كذب بكذب، ان كنت تظنك تخدعني فانت مخطئ، وان ظننتني غير قادر علي محاسبتك واهم، ربما كان عقاب الصامت اشد من عقاب الصائح، والمقعد اقسي من المتحرك.

اياك يا ولدي وغضبة الصامت بعد سكونه، فانها قنبلة موقوتة غير محسوبة العواقب، انك تخدع نفسك ولست بخادعي، انصرف يا بني هداك الله"

"وهذا احد المغفلين من حولي ممن يجيدون تكبيلي بما يفعلون، صورة مما يحدث لي ممن حولي، وان سالت احداَ ممن يعايشنا فربما تغزل في وصف اخلاصهم لي وتفانيهم في خدمتي". قالها وابتسم لجليسه وسميره في جلسته بحديقته الصغيرة قبل ان يرد عليه السمير مبرراَ وان كانت نظرات الحيرة تفضحه

"تعلم طيش الشباب يا صديقي، فلا تبتئس بما يفعل"

"ان كان هذا طيش كما تسميه فاني اراه جائحة تطيح بكل الملتصقين بي كبيرهم قبل صغيرهم، تجد احدهم ممن هو اكبر مني عمراَ وخبرة كما هو المفترض ان يحدث يعيب علي كثرة انشطتي ومهامي التي ربما لا تتناسب مع حركتي، انتهي تعجبي من كونه اولي ان يفرح لي بقدرتي علي التحدي وتذليل العقبات من حولي بدلاَ من ان يعيب علي حياتي التي احبها واجدني فيها، كان اولي به ان يجاريني في نشاطي وحيويتي التي احفرها في الصخر وتفوقت علي نشاط كثير ممن يظنون انفسهم اصحاء"

تعالت ضحكاته المصطنعة لكن الألم القاسي الذي يحاول ان يخفيه بها لم يخفي علي سميره الذي تالم لألمه ثم قال بعد صمت

"ما دامت لا تعجبك خدماتهم وتحسبك تستطيع الاستغناء عنها بل وتراها اغلالا تقيدك، فلم لا تصارحهم بذلك وتعفيهم منها، وتحل مشكلتك وتزاح همومهم واعبائهم"

ازدادت ابتسامته اتساعاَ وهو يرد قائلا "بل وحاولت الفرار من ذلك الاسر المقنع، لكن متي يترك السجان سجينه حتي وان تعاطف معه؟ لقد توهمت مثلك ذلك ايضاَ لكن وجدتني اكتشف الحقيقة المرة، لست رهين الكرسي الذي اجلس عليه بل العقول التي من حولي، يا عزيزي قدري ان أحاط باغبياء مجبر علي التعامل معهم".

ساد الصمت، واستمرت العيون تراقب ما حولها.

في صمت.

تعليقات

المشاركات الشائعة