مجموعتي القصصية الثانية "ثلاثيات"

 






ali sho ali


الاهداء ..

من قلبي الي عقولكم، ارسل من خلال تلك الثلاثيات الثلاث رسائل مخفية بين كلماتها، لن استطيع البوح بها، سيقرأها منكم أصحاب البصيرة والعقول المستنيرة، وهم فقط من استهدف.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الثلاثية الاولي " عاشقة الليل الحزين "

 

امام المرآة في جلستها المعتادة، تنظر الي وجهها وهي تضع عليه مساحيق ومواد التجميل بطريقة احترافية اعتادتها بحكم التكرار والخبرة، تغطي بها ما يعتري وجهها من شحوب وبؤس وألم وتخفي مع الابتسامة المصطنعة ما يكابده قلبها من حزن يعتصره.

تبدوا كعروس تتزين لزوجها، لكنها تتزين لكل زوج يدفع لها ولو لقاء ساعة؛ نعم تلك هي مهنتها وجسدها أداة عملها وكل ما تمتلكه من حطام الدنيا، تطعم به العديد من الافواه الجائعة، متمثلة دور شمعة تحترق لتنير للآخرين؛ هل هي شمعة فعلاَ؟ وهل تنير لمن حولها حقاَ؟ سؤال لطالما تسأله لنفسها قبل ان تنهض وتلتقط حقيبتها وتهم بالخروج من حجرتها.

في ردهة الشقة حيث يجلس أكبر اشقائها السبعة والذي يصغرها بخمس سنوات علي الاريكة المتهالكة، وهو يطالع هاتفه الذكي في فتور، تلقي عليه نظرة لا مبالية قبل ان تطيح ببصرها الي أمها وهي منهمكة في مطبخها، يصرخ جرس هاتفها داخل الحقيبة فتلتقطه بسرعة " ايوة، انت وصلت بسرعة كده؟ طيب انتظرني قبل الإشارة، آه قدام الفكهاني، خمس دقايق أكون عندك، باي"

تلمح شقيقها وهو ينظر اليها شذراَ فتثبت نظراتها نحوه كسهام حادة متحدية، ليشاهد فيهما آخر حديث عاصف دار بينهما، فيخفض بصره في انكسار ويغمض عيناه في الم، يعتصر جفناه وهو يطالع ذلك المشهد كشريط سينيمائي يدور في عقله.

ترسم الفتاة ابتسامة القلب الباكي كما اعتادت قبل ان يتناهي الي سمعها صوت أمها يقول " فرسة زي القمر والنبي، يرزقها بالخيال اللي يستاهلها ويقدرها" رمقتها الفتاة باشمئزاز ولسان حالها يهتف " الفرسة بتاعتك بترزق كل يوم بكذا خيال يستعبدوها ويذلوها طالما ده مراضيكي ومالي جيبك بالفلوس " ثم استدارت وغادرت الشقة.

" رايحة فين وانتي متبدرة كده زي العروسة؟ "

" عروسة ومتبدرة تبقي رايحة لفين ؟ رايحة لعريس طبعاً "

" بتقولي ايه؟ "

" حاكون رايحة فين؟ رايحة الشغل "

" شغل ايه ده اللي تروحيله بالمكياج والالاجه دي كلها؟ امال الفرح يلبسوله ايه؟ "

تنظر اليه بتحد قائلة " أقوللك ايه الشغل ده وترد علي يرضيك ولا لأ؟ ولو ما يرضيكشي تمنعني منه؟ والله ساعتها حاكون فرحانة بيك وأقول أخويا راجلي، ايوة انا اكبر منك ومربياك علي ايدي لكن حاسمع كل كلمة تقولها لي واطيع كل اوامرك "

اقتربت منه قليلاَ بنفس النظرة والنبرة اللتان تطفحان بالتحدي وكأن صاحبتهما تعلم يقينا بفوزها وانتصارها وان لم تعلن نتيجة ذلك التحدي " مش بترد علي ليه؟ ساكت ليه؟ ما سالتش نفسك ايه الشغل اللي اختي بتشتغله ويخليها تكفي كل طلباتنا احنا التسعة؟ ما سالتش نفسك ايه الشغل اللي مأكلنا وملبسنا ومدخل اخواتك المدارس ومعيشنا احسن من ناس كتير حوالينا؟ "

اقتربت منه اكثر وهي تنظر في عينيه بنفس القوة وبنفس نبرة الصوت الحادة وهي تهدر من أعماق جوفها " ما سالتش نفسك الموبايل الحديث اللي في جيبك جالك منين واندفع تمنه ازاي؟ ومصروفك اللي احسن من مرتب موظف اكبر منك بتاخده منين؟ "

التفتت الي أمها التي تشاهد الموقف عن كثب وقالت " وانتي يا امه، ما سالتيش نفسك ايه الشغل اللي يخليني ارجع وش الصبح يوماتي؟ " ارتبكت الام قائلة " مش قلتيلي بتشتغلي ممرضة؟ " ضحكت الفتاة بشكل هيستيري ثم تابعت قائلة " ايوة ممرضة بداوي عيانين بالدوا الوحيد اللي املكه، نفس الدوا لكل العيانين، وطالما مرغوب يبقي انا اداويهم وانتوا تقبضوا ثمن الدوا، مش كده؟ "

ازداد ارتباك الام وهي تغمغم بانكسار " انتي ادري يا بنتي بشغلك " تعالت ضحكتها الهيستيرية ثانية ثم اردفت بهدير مكتوم وهي تنظر في عيني اخيها بقوة " يبقي ما حدش يسالني عن لبسي وانا رايحة الشغل طالما حتي مش عاوزين تعرفوا مكانه فين "

اغمض الفتي عيناه في صمت، انتزعته أمه من ذكري ذلك المشهد الأليم بصوت زاعق " انت بتنعس وانت قاعد؟ انزل شوف المحل دبحوا البطة ولا لسه وهاتها " نظر الشاب الي امه بعينين دامعتين مغمغماَ " البطة اندبحت يا امه وادينا بناكل من لحمها كل يوم "

اندفعت الفتاة خارج المنزل وكأنها لا تريد ان تري وجوه الجيران أو يروا هم وجهها، ورغم ذلك تلمح من خلف منظارها الشمسي تلك العيون ترمقها وتتفحصها؛ ما بين عيون تتحسر وتتالم لخروج بنت المرحوم الأستاذ عبدالواحد موظف الصحة البسيط وحافظ ومحفظ كتاب الله، مرتاد المساجد وصديق المشايخ -بهذا اللباس المبتذل. وبين عيون اخري تلتهم بنظراتها تضاريس جسدها وتفاصيله في نهم ووقاحة، تطالع هي كليهما لا مبالية ومع ذلك تسرع الخطي لكي تنتهي من ذلك المشهد العبثي المتكرر. ولسان حالها يقول "ايتها العيون المتأسية القلقة علي؛ تعاطفكم وحده لن يطعمني واخوتي ولن يحمينا من الانحراف، من أراد منكم ستر عفتي باي شكل يقره الشرع فاهلا به ولن امانع ولو كخادمة، ولكن تعاطفكم وحده لا اريده ولا حتي نظراتكم الابوية تلك.

أيتها العيون النزقة المتطلعة الي؛ عندما قررت بيع جسدي ونفسي لم انو التصدق به علي الفقراء امثالكم، فلا تجوز الصدقة من حرام، هاك جسدي استعرضه امامكم، فمن يشتهيه فليفتح كيسه وليخرج لي ما يسد رمقي واخوتي أو ليخسأ ويريحني من تلك النظرات المنحطة والتي لن تزيده الا الما وحسرة "

وصلت الي المكان المنشود ووجدت عميلها ينتظرها داخل سيارته.

" مساء الخير يا بيبي "

" مساء الفل يا جميل، اتاخرتي ليه ؟ "

ارتمت بضجر فوق المقعد المجاور له قائلة " مش كنت باجهز لك؟ ولا اجيلك شكلي مقرف ؟ "

" مالك يا قطة فيه ايه؟ ده احنا رايحين نفرفش وننبسط، قدامنا سهرة صباحي "

" ما تشغلشي بالك، خليك في انبساطك وسيب قطتك تنونو في حالها "

انفجر ضاحكا ثم قال " علي فكرة، حييجي معانا واحد صاحبي حكيت له عنك ومشتاق يشوفك "

ابتسمت بسخرية والم قائلة " حتي لو عشرة، لن يضير الشاة سلخها بعد ذبحها "

" يا جامد! " قالها وتعالت ضحكاته مع انطلاقة السيارة مسرعة .

معلنة لها بدء يوم جديد!

 

***

 

تستفيق من نومها علي رنين هاتفها وهو يعزف لحنا جميلاَ، ترد بخمول " ألو"

"هاه يا وزة، حنتقابل امتي؟ "

" وقت ما تحب، انت عارف ساعتي بكام؟ "

" مش عاوز اعرف، اضربيه في اثنين وأنا ادفعلك بزيادة مش حتفرق "

" يا دفيع، وأنا عيوني ليك، بس صوتك ماله حنين وظغنطوط ليه كده؟ "

" انتي ليكي اكل ولا بحلقه؟ "

ضحكت قائلة " لا يا عم اديني تمن الاكل، و.. ، خليلك انت البحلقة "

انفجر الصوت علي جانبي الاتصال بالضحك قبل ان تقول " خلاص أوصل النادي اللي قلتلي عليه وارن عليك.

علي فكرة، مش حاتلطع علي الباب زي الشحاتة لحد ما تيجي، حادخل واطلب مشروب كمان، ولا ايه؟ "

" بلاش شغل الشحاتين ده، اطلبي حتي غدا، ولما اجي حاحاسب عليه، كفاية يعرفوا انك ضيفة وائل الكموني حتلاقي مدير النادي بنفسه بيخدمك"

" ماشي يا وائل باشا، حاكون في النادي وارن عليك "

"باي"

"باي"

ــــــــــــ

تجول بعينيها في جنبات المكان الفسيح وهي تغوص في نعومة داخل تلك الاريكة الفخمة في ذلك النادي الكبير الشهير، تذكرت كلمات ذلك الشاب في المكالمة (بلاش شغل الشحاتين ده) وهي تري هيئات وملابس مرتادي ذلك النادي الفخم مقارنة بهيئتها وملابسها، مثلما تذكرتها وهي تدخل من باب النادي وقد ارادت اختبار تلك العنجهية التي كست تلك الكلمات، فاخبرت الحارس بانها (تبع وائل بيه الكموني) قبل ان يطلب منها ثمن تذكرة دخول للنادي، ولا تدري ان الدخول فقط لأعضاء النادي وضيوفهم ولا يسمح للغرباء بالدخول.

لم تتوقع من الحارس مطالبتها بثمن تذكرة دخول النادي، لكنها لم تتوقع ايضاَ ردة فعله فور سماعه بالاسم حين انتفض من جلسته مرحباَ بها بكل حفاوة وتبجيل وكأنها نطقت باسم رئيس الوزراء، وقتها علمت سبب تلك الغطرسة وانها ليست من فراغ.

اثناء احتسائها لشرابها اضطرب هاتفها بنغمة رنينه الجميلة فالتقطته بسرعة وردت بشكل اسرع بتلقائية وعفوية حين لمحت رقم ذلك الشاب وكأن رهبة داخلية تجاهه انطبعت داخلها مما رأت وسمعت وعاينت.

"ايوة يا بيبي، فينك؟ "

"انتي اللي فينك؟ انا جوه النادي"

"انا عند البوفيه، لابسة تيشرت احمر و ..."

قاطعها قائلاَ "خلاص شفتك، جايلك"

اخذت تجول بناظريها بين من تتجه اقدامهم نحوها فلم تجد سوي ذلك الفتي اليافع ممشوق القوام فخم الهيئة مرتب الهندام، ولكن مهلا! أهذا من تواعد كالكبار؟ فتي صغير؟ او لنقل طفل كبير؟؟

هل يعقل ما هي مقدمة عليه؟ هل يجوز لها ذلك؟، ضحكت داخل نفسها حين عن لها ذلك السؤال الساذج، وهل ما تفعله هي من البداية يجوز حتي يعد مضاجعة طفل فعل محرم ولا يجوز؟

يا لها من سخرية سمجة حين ترتدي الرذيلة ثوباَ من أثواب الفضيلة كي تداري سوءتها.

استفاقت علي صوته العالي وهو يجلس امامها "هيه، روحتي فين؟ قاعد قدامك وعنيكي علي لكن عقلك تايه"

"معلش اصلي اتفاجئت لما شفتك، مش شايف انك لسه صغير علي الشقاوة دي؟"

ضحك بطفولية "صغير بس احير"

"لأ بجد، انهي مصروف ده اللي يخليك تدفع ده كله؟"

"وبعدين! انتي ليكي اجرك اللي تعوزيه وانا اعمل اللي انا عاوزه.

مش يلا بينا؟"

"استني بس شوية لما نتعرف علي بعض وناخد علي بعض"

"ناخد علي بعض ونعرف بعض كويس في شقتي"

"شقتك الخاصة؟"

"قولي شقق، انا علي انبسط وبابا عليه يدفع"

"خلاص يلا بينا" قالتها ونهضت معه وقد بدأت الصورة تتضح لها رويداَ رويداَ.

دلفت الي داخل شقة واسعة فخمة، حوت من إمكانيات الرفاهية والترف ما لم تسمع به او حتي تتخيله.

"اش اش، ابن مين انت علشان العز ده كله؟"

"تسمعي عن ادهم الكموني؟"

"يا نهار اسود، انت بن ....."

"ايوة، انا بن الحرامي ده، الحمام أهه، دقيقتين وتحصليني علي الاوضة اللي هناك دي، ما تنعسيش جوه، مش فاضيلك"

ردت بغيظ "آه يا بن الكموني، حاضر"

دخلت الحجرة في ثوب فاضح قصير وهي تجفف شعرها فوجدت طفلها المدلل يرزح فوق سريره بين كومة من زجاجات الخمر الفارهة الثمن، جلست امامه القرفصاء فوق السرير وقد جعلت وسادة في حجرها وابتسمت له قائلة" هه يا كتكوت، وبعدين"

رمقها بعبث طفولي غاضب قائلاَ "ايه كتكوت دي؟ انا عيل قدامك؟"

ضحكت ملء شدقيها وقالت" ما تزعلش يا سبع الرجال، حقك عليا ما اقصدش.

بس ازاي اهلك سايبينك كده تصرف بالشكل ده وتعمل اللي انت عاوزه؟"

رد وهو يشعل سيجار فارهة "وهو يعني انا بس اللي باعمل كده؟ كل الشلة بنفس الطريقة، ياخدوا الفلوس اللي يطلبوها من اهاليهم ويعملوا اللي عاوزينه بيها، المهم ما يسمعش اهاليهم عنهم مشكلة، كلنا بالنسبة لأهالينا زي الفلوس مالهاش قيمة ولا حساب"

"ايوة بس الفلوس الكتير دي تخليك تقع في مشاكل لو ما حدش متابعك"

"كل مشكلة وليها حل وتمن عند ادهم الكموني، محاميينه ورجالته وفلوسه ما يقفش قدامهم حد أو مشكلة، وطالما مريحه من وشي ومش مزنق عليه في الخلبصة بتاعته، فلو عاوز لبن العصفور حيجيلي"

رأت علامات الحزن الممزوج بالغضب في عينيه فتابعت "طيب ومامتك فين من ده كله؟"

زادت امارات الحزن والغضب في عينيه ووجهه وهو يقول "مامي سيدة اعمال ليها حياتها العامة اللي شغلاها، وانا بالنسبة لها قط جميل بتلعب بيه وتلاعبه وقت فراغها لكن اكتر من كده ليه اللي يهتم بيه نيابة عنها، مجرد انها توفر لي كل اللي انا عاوزه حتي لو كان غلط فهي كده بتعمل اللي عليها"

"حتي لو كان اللي عاوزه غلط؟"

"ايوة حتي لو غلط، في مرة فتن لها واحد صاحبي علي كنت علقت منه البنت بتاعته، وقال لها بايت في شاليه من شاليهاتنا، حتي ما فكرتشي تتصل علي او تتاكد وقالت له ده ولد ما فيش اللي يعيبه"

مد قدمه وتحسس بها صدرها العاري قائلاَ "تعرفي! انا نمت في حضن الشغالات والبيبي سيترز والهاوس كيبرز اكثر ما نمت في حضنها، ما فيش نقطة حليب منها دخلت جسمي وهي بتتباهي بكده وبتعتبره رجعية وبيفسد قوام الستات"

نظرت اليه باشفاق جارف وقد شعرت بما يخفيه صدره من آلام واحزان، وبعينيها الدامعتين القت الوسادة بعيدا وفتحت له ذراعيها فالقي بنفسه بين احضانها واطبقت بيديها عليه في حنو وعطف.

فجأة انفجر الفتي باكياَ بكل الم الدنيا وقسوتها، فلم تتمالك دموعها من الانسكاب تلقائياَ وزاد التصاقها به واحتضانها له وهي تغمغم "بس يا وائل بس، انا لو اتجوزت بدري شوية كان زمان معايا ولد جميل زيك، لكن ربنا ليه حكمه لما يدي النعمة للي ما يصونهاش. "

زاد نحيب الفتي والتصاقه في احضانها مدة طويلة وهي تربت علي ظهره بحنو وتسكب عبراتها الحارة فوق جسده في صمت.

اختلست نظرة الي وجهه فوجدته ملاكاَ ناعساَ كرضيع نائم بعد شبع من رضاع، كان احتياجه الي حضن وحنان ام يفتقده  ويشتاق اليه لا جسد امراة يلبي جوع غريزته الجنسية، المرأة في كل أدوارها المجتمعية كابنة او زوجة او شقيقة او حتي صديقة وزميلة هي ام في المقام الأول في عيون الرجل.

ولكن .. من يشبع جوعها ؟!

 

***

 

علي اريكة من الخيزران وفوق مقعدة ناعمة، تجلس في ثوب قصير مكشوف في شرفة واسعة تطل علي مجري نهر النيل مباشرة، تطالع لحظات غروب الشمس وانعكاسها المتلألئ علي موجات المياه المتناغمة، وهي تتمني لو تدوم تلك اللحظات، ولكنها تعلم انها ستنقضي بانقضاء الليلة وستعود الي مسكنها القديم في الحارة القديمة لتطالع نفس الوجوه القديمة وتعاصر ذات المشكلات القديمة وتئد في اعماقها ذات الاحلام القديمة!

تناهي الي مسامعها أصوات لطيفة لقرع كؤوس زجاجية بعضها البعض، ابتسمت دون ان تلتفت الي ذلك العجوز الذي يجول بيديه في دولاب الفضيات ليأتي منه بزجاجات خمر وكؤوس فاخرة ممنياَ نفسه بسهرة ممتعة مع تلك الحسناء، ومع تزايد قرع الكؤوس ببعضها تزداد ابتسامتها الساخرة من ذلك المتصابي الذي يهتم بسفاسف الكماليات لسهرته المزعومة ويتركها وهي وجبته الأساسية!

ابتسمت له وهو يضع ما يحضره علي المنضدة الصغيرة امامها بكل جد واهتمام وقالت "حتقدر عل كل ده؟"

"حتشوفي الفرق بين الرجالة الصح والفراخ البيضا اللي بتقابليهم"

"يا جامد.. طيب لما نشوف"

فجأة دق جرس الباب في انسيابية ، فهرول اليه الرجل وفتحه ثم صاح "ايه يا احمد؟ اتاخرت كده ليه؟"

"آسف يا خالد بيه، الشوارع زحمة غير طبيعية مش عارف ليه"

"طيب تعال ورايا"

اتجه العجوز الي حجرة نومه ودلف الي الداخل شاب ثلاثيني قمحي اللون قد كسي الصبر والعزيمة ملامح وجهه وجسده النحيل، ما ان لمحها الشاب في ثيابها المتحررة حتي تنحي جانبا في خجل جم واحراج بالغ، وبرغم اعجابها بادبه الجم لكن ذلك لم يمنعها من ابتسامة واسعة لتلك الاخلاقيات المندثرة.

"ايه؟ ما جيتش ورايا ليه زي ما قلتلك؟"

"منتظر سعادتك هنا لما تيجي"

دس العجوز في يده مبلغاً من المال وهمس في اذنه ببضع كلمات، غمغم الفتي علي اثرها في ضيق "تؤمر سعادتك" ثم انطلق فاراَ من المكان دون ان يلتفت تجاهها كانما يفر من الجحيم.

القي بجسده علي الاريكة المجاورة لها وكله يتصبب عرقا بما لا يفلح معه كل مزيلات العرق ومعطرات الجسم التي اغتسل بها اغتسالاً، رسم ابتسامة باهتة علي وجهه وشفتيه يداري بها اجهاده البدني وهي تنظر اليه بكثير من الاشفاق وقليل من الازدراء. وكأنه قرأ ما يجول بخاطرها فقال "علي فكرة، من أيام المرحومة ما فكرتش اعمل كده، فما يغركيش الكام نهدة ونقطتين العرق دول، احنا لسه برضه بعافيتنا، بس برضه علي مهلك علي شوية، السن برضه ليه حكمه"

ابتسمت وقالت له "انت ليه ما اتجوزتش بعد المرحومة؟"

"انا انشغلت في الحياة مع العيال ومع الشغل ونسيت نفسي لحد ما وصلت لمستواي ده، فقلت أحاول ارجع شبابي مع وزة حلوة زيك. "

ابتسمت له ابتسامة باهته وهي تغمغم دون ان تحرك شفاها؛ أيها الحقير المتصابي، اما كان اشرف لك واطهر لو افرغت شهواتك في حلال ولو فقيرة بدلاَ من البحث عن ملذات الحرام؟ انني لو وجدت الحلال متيسراَ لما ارتميت بين احضانك الليلة!

"ايه؟ سرحتي في ايه؟"

"لا ابداَ موضوع كده، مش يلا بينا علشان نبدأ الليلة من أولها؟"

"ماشي الحال، يلا جوه"

أمامه وهو يتمطي شبه عار فوق سريره انتضت ثوبها العاري في دلال واغراء، وهو يرتعد ويتصبب عرقاَ وكأنها المرة الأولي له، وما ان لمسته بيديها حتي انتفض بشدة وشهق بقوة ثم تحشرجت أنفاسه للحظات ثم سكنت.

لم يستغرق الامر لحظات وخلالها لم تستوعب ما يحدث امامها، وعندما استفاقت من هول الصدمة والمفاجأة ارتعدت خوفا واخذت تهزه بعنف وهي تزعق "خالد بيه، يا خالد، مالك فيه ايه؟" لكن لم يستجب لهزها له او لصوتها فايقنت انها امام جثة هامدة.

حين وصلت بتفكيرها الي تلك النقطة انتفضت رعباَ وارتدت ثيابها بسرعة، ثم هرولت تجاه الباب لتهرب، لكنها توقفت لتفكر "ازاي حاهرب وانا شافني معاه بتاع الدليفري وبواب العمارة؟ اكيد حيتعرفوا علي، طيب اتصل بالبوليس؟ ولما ييجوا حاقولهم ايه؟ وكنت باعمل هنا ايه؟ طيب حيصدقوني ولا ممكن يتهموني بقتله؟

عند هذه النقطة انفجرت ببكاء حار والقت بجسدها فوق اريكة بشكل هيستيري في ذعر متناهي لا تدري ماذا تفعل.

مر الوقت عليها دون ان تشعر به وفكرها في عالم اخر من هول الصدمة، قبل ان تسمع جرس الباب يدق بتناغم، تذكرت احمد عامل الدليفري وما جري مع مضيفها حين همس في اذنه بما همس، لابد انه اتي بما طلبه منه مضيفها، فهل ستتسلمه هي منه؟ وكيف ستبرر له ذلك؟ فلم تجد بداَ من ان تفتح له الباب.

وجدته كالمرة السابقة في وقاره علي صغر سنه وادبه الجم البادي عليه، مجرد ان لمحها حتي انتحي جانباَ وهو ينظر الي الأرض قائلاَ بهدوء" انا جبت طلب خالد بيه"

"طيب هاته وانا اديهوله"

رفع بصره الي وجهها علي استحياء قائلاَ "لا مؤاخذه يا هانم، لازم يستلمه بايده احسن يزعل و ..."

لم يكمل حديثه حين لمح آثار البكاء الحار في عيونها وعلي وجنتيها، كما انتبه الي لهجتها الباكية التي حدثته بها وانها ترتدي كامل ثيابها بعكس المرة السابقة.

وكأنها قرأت ما يجول بخاطره بقطعه لحديثه وعرفت ما انتابه من شكوك فانهارت في نوبة من البكاء الحار ودلفت الي الداخل والقت بنفسها فوق اقرب مقعد، ارتبك الشاب ودلف خلفها بحذر ليستطلع الامر واقترب منها قائلاَ "خير يا هانم، فيه حاجة؟"

استجمعت جزءاَ من هدوئها قائلة "مصيبة يا أستاذ احمد وطبلت فوق دماغي، انا بنت غلبانة باجري علي ايتام والحوجة ربنا يما يحوجك لمخلوق هي اللي رميتني الرمية دي، ابوس ايدك تساعدني ربنا ما يرميك في ضيقة"

نظر اليها بقلق وقال "خالد بيه فين؟"

ردت بصوتها المنتحب "جوه"

هرول الفتي الي داخل الحجرة فوجده ممدداَ شبه عار فوق سريره، تحسس النبض في عروقه فايقن انه اضحي جثة هامدة.

خرج مسرعا فوجدها ترتعد خوفاَ فقال "ادي اخرة الحرام، كنت متوقع له نهاية زي دي، لكن ياخد في رجليه واحدة فقيرة وظروفها زيك ده اللي ما جاش علي بالي ابداَ"

"اعمل معروف يا احمد، ابوس رجلك تنجدني حتي علشان اللي ورايا حيتشردوا برغم اني ضحيت بنفسي علشان ده ما يحصلشي" رد بابتسامة خفيفة ساخرة "ضحيتي؟ عموماَ مش وقته، يلا بسرعة ما فيش وقت"

التقط يدها وجرها الي الخارج مسرعاَ وصعد بها الي اعلي العمارة وهو ينظر الي اعلي والي اسفل كي يتاكد ان لا احد يراهما، حتي وصل الي السطح فقال لها مضطرباَ "اقعدي هنا فر درا العشة دي ما تخليش حد يحس بيكي او يلمحك لحد ما اجيلك" غمغمت بذات الصوت الباكي المرتجف "حاضر".

جلست القرفصاء بجوار العشة كما طلب منها الفتي، وقد دفنت راسها بين ركبتيها وانخرطت في نحيب جارف، ومشاهد من احداث حياتها تدور في ذهنها كشريط سنيمائي يدور امام عينيها.

ربي اني اعلم اني عصيتك ولا استحق عفوك ورحمتك، ربي اني لا ابرر ما اقترفت من ذنوب باني كنت احمي اهلي من الضياع حتي لو علي حساب نفسي، ربي اني لا ابرر ما اقترفت من ذنوب بان امي كان يمكن ان تكون في موقفي هذا ووقتها كان الامر سيكون اشد وطأة، انها ربة الاسرة وعامودها المقيم أودها، ولا يمكننا التبرؤ منها، لكنني فرد في الاسرة ويمكنهم التضحية بي والتبرؤ مني بل وطردي فيعلق بي وحدي ما قد ينتاب اسرتنا من عار وسوء سمعة وهم يحيون فيما بقي من أعمارهم شرفاء اطهار، يا غياث المستغيثين استغيث بك فاغثني، يا ارحم الراحمين استجير برحمتك فارحمني.

مر الوقت دون ان تشعر به حتي تناهي الي سمعها وقع اقدام مسرعة تصعد الدرج، انتفضت مذعورة لكنها هدأت قليلاَ حين اطل وجه الفتي مقترباَ منها وفي يده كيس يحوي ما يحويه وضعه بجوارها وجلس امامها وهو يلهث لبرهة ثم قال "خطتي كالآتي؛ حتغيري هدومك دي بالهدوم اللي جبتهالك في الكيس ده، وانا حاخد الهدوم اللي غيرتيها في الكيس واتخلص منها بطريقتي، فلما حتنزلي قدام البواب مش حيركز انك اللي طلعتي مع خالد بيه وبالتالي حيفتكر ان اللي طلعت معاه لسه ما نزلتش وحيبتعد الشك عنك، وعلشان كده وانتي نازلة قدامه حاولي تداري وجهك بشكل عفوي ما يبانش انه مقصود وانتي ماشية بسرعة علشان ما ياخدش لباله، انا حانزل الشقة تحت واتاكد ان مالكيش متعلقات تحت "

"ايوة انا لي شنطة بس تحت"

"واحنا نازلين حاديهالك، وحاخد كمان الكاسين اللي شربتوا فيهم المنكر واتخلص منهم برضه"

" ما لمستهمشي، وعلي فكرة انا باتعاطاش أي منكرات"

رمقها بنظرة جمعت بين الدهشة والشفقة ثم قال" ما علينا، المهم انه ما تبقيش في نظر الشرطة لما يستدعوكي انك قعدتي معاه قعدة غلط او سهرتي معاه، حتقولي جيتي معاه اخدتي منه مبلغ كاحسان او مساعدة ليكي ونزلتي علي طول"

هتفت مذعورة "هم حيوصلولي برضه؟"

"ايوة وارد جداَ يوصلولك من اقوال بواب العمارة او من بصماتك في المكان، واوعي تنكري انك جيتي او انك تعرفي خالد بيه والا حيحوم حواليكي الشكوك، وقولي زي ما قلتلك انتي جيتي تاخدي منه مساعدة شهرية ونزلتي علي طول. أما انا فلما حانزل حاطلب اوردر من تليفونه ومن أي حتة ييجي كمان ساعتين او اكثر وحانزل علي طول، ولما ييجي المندوب ويتصل بيه وما يردش عليه حينزل للبواب وساعتها حيبدأوا يعرفوا بوفاته واكون انا مشيت، ولما حيستدعوني حاقول اني اديته الاوردر هو وما كانش معاه حد، فهمتي حتعملي ايه؟" أومأت برأسها في انكسار فرد مسرعاَ "عظيم، اسيبك علشان تلحقي تغيري هدومك بسرعة وحاكون علي السلم تحت بكام درجة لما تخلصي تعالي، غيري وانتي قاعده علشان ما حدش يلمحك"

غمغمت بضعف وهي تنظر في عينيه "عاوزة اقولك حاجة، انا اكيد في نظرك زانية ومنحرفة وانت عندك حق، لكن عاوزاك تعرف برضه اني باجري علي اسرة من ست افراد وامهم غيري كلهم أطفال، تركهم ابوهم الموظف البسيط ما حيلتهمش حتي العيش الحاف، وكان لازم حد يضحي علشان الباقي يعيش.

صدقني يا احمد لو لقيت اللي يسترني بس يعيش اخواتي ولو بالكفاف كنت حارضي أعيش معاه بالحلال ولو كخدامة، لكن كل اللي كان عاوزني كان عاوز يشتريني بابخس ثمن، علي راي واحد فيهم لما قال وهي بنت مين يعني، وما ليهمشي دعوة بامي واخواتي، ابقي بعت نفسي بالتراب وما نجدتش اهلي، الناس في زماننا ده ما بترحمش.

يا احمد انا لو غلطانة قيراط الناس اللي حوالي اجرمت في حقي وحق اهلي أربعة وعشرين، يمكن لو تعاونوا مع بعض ووصلونا لحد الكفاف حتي ما كنتش وصلت لكده وبعت نفسي للحرام واهل الحرام"

 نظر لها الفتي بثبات قائلاَ "وانا كمان عاوز اقوللك حاجة، ابويا اتوفي وانا عندي حداشر سنة واكبر اخواتي بنت تسع سنين وعيل سنتين، سبت المدرسة وكنت بالف الصبح بتروسيكل اوزع بضاعة علي محلات لغاية بعد الظهر ومن الظهر للمغرب بابيع وده شغل تاني باجر تاني، ومن بعد المغرب لنص الليل باشتغل في قهوة صبي، وعلشان وقت المواصلات اللي بيضيع بيتحسب علي من اليوم كنت بابات في القهوة للصبح علشان ابدأ يوم جديد، يكون برد يكون تأخير في الوردية كل يوم برزقه، ولما احب اشوف امي واخواتي امر عليهم بالتروسيكل خطافي زيهم زي أي محل، عمري ما فكرت اخد حاجة مش بتاعتي ولا ابيع كرامتي ولا ذمتي، ماليش تعليق علي كلامك بس يارب تكون الرسالة وصلت"

ربما كانت لهجته خفيفة ووجهه رقيق رحيم، لكن كان لوقع كلماته في نفسها وقلبها كأشد ما تكون السهام النارية، احست وهي تبدل ثيابها كما طلب منها بانها تنسلخ من حياة قديمة بكل مآسيها ومعاصيها، ورأت في الملابس التي اهداها إياها جلود عفة وطهارة، كانه ملاك ارسله الله لها حين اذن لها بالطهر والعفاف بتلك الملابس لتستبدل بها ما كانت تتسخ وتتنجس به من جلود العار والعهر القديمة.

كان هذا لها ميلاد جديد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الثلاثية الثانية " موت & حياة "

وباء

يسير بين السائرين، ممتطياً جواده الأصيل الذي لم يتخل عنه من قبل برغم توريط فارسه له في كثير من المعارك والمشكلات، ولكنه كفارسه لا يترك ابدا من يحتاجه، يعلم مدي نبله وفروسيته التي ورطته من قبل في الكثير من المعارك والمغامرات، وبالتالي لم يتخل عنه تضامنا مع نبله وصدق نيته.

لكن هذه الرحلة ربما تكون الأخيرة.

لقد خرج يبحث عن الدواء لأبنائه، برغم علمه بالخطر القادم والذي يهرب منه الجميع، انه الاورك.

وحوش في هيئة البشر تجتاح تلك المناطق من العالم والجميع يهرب منها، ربما كانت نهاية العالم قد حانت بقدوم تلك الوحوش، لكن ذلك لم يثنيه عن الخروج والبحث عن العلاج لأبنائه غير عابئ بأية اخطار، ربما نسي أنه حي أصلا له ما للأحياء من حقوق في تلك الدنيا، وعليه فلم يؤثر فيه وجود أي خطر، هو الميت الحي !

من بعيد لمح ذلك المنزل المتهالك الصغير يقف أمامه طفلان صغيران يحتضنهم من خلفهم شبح امرأة بائسة، اقترب الفارس منهم من باب الفضول فوجد ما أوقع الدهشة والفزع في وجده، وجد فيها حياة منطفئة وضياء معتم عليه في جسد امرأة فاتنة تحتضن طفلين بريئين وقد كسي الحزن الصامت والترقب وجوههم، أينتظرون أهاليهم لحين عودتهم أم يترقبون وصول ذلك الخطر المحدق باستسلام ؟

كان هذا الخاطر كفيلاً ليترجل الفارس عن جواده ويقترب منهم في صمت وكأنه شبح لا يرونه ولا يكترثون له، لكن عيناها اصطادت والتقطت عيناه فدار بينهما الحوار دون ان تتحرك الشفاه

"من انتي ؟"

"حياة فاترة في جسد فائر، وقلب ضعيف منكسر يحتضنه قفص صدري من الصلب."

"اين اهلك واحبابك من حولك ؟"

"حولي الكثيرون ولا اشعر بهم، واحبابي كثيرون ولا اجد الا الجفوة والشده منهم، انني يا سيدي مليكة علي عرش من جريد!"

"عيناكي تبوح بالكثير وشفاهك لا تتحرك، عيناكي فتنت قلبي وروحي وجعلته اسيراً لهما ويتمني ان يكون حارسهما وخادمهما وحياته قرباناً لقربهما.

خرجت ابحث عن دواء لأبنائي فاذا بي اجد الدواء الناجع لهم والسعادة والراحة لقلبي.

هل ترتضيني يا اميرتي فارساً وحبيباً ؟"

"بل والحبيب الأحب والقريب الأقرب الي القلب، انت من تريد أن تأخذ بيدي بلا مقابل، وانت من تريد ان تهبني السعادة والأمان باجل الشمائل، انت ستكون لي الحبيب والقريب والصاحب فيما تبقي لي من عمر ولن اعدل بك بشراً."

"لو امرتني بترك حياتي السابقة لفعلت برغم احتياج ابنائي للعلاج والأمان ولا ذنب لهم الا انهم ابنائي."

"ولم لا يأتون الينا ونكون جميعاً اسرة واحدة انت عائلها وانا ربتها، لتكن الاب لنا جميعاً وأقوم انا بواجبات الامومة فقلبي يحترف اغداق الحب والحنان علي من حوله وربما كان هذا سر تعاستي!"

"يا لكرم الله! كل الصعاب ذللها ذك العشق المفاجئ ؟!"

"ليس بعد، فالخطر الأكبر ما زال قائماً وقادماً."

"لا تلقي له بالاً ودعي الامر لله ثم لي، فسيفي يحترف جدع انوف الغاشمين والمعتدين، وربما كان هذا سر شقائي !"

"هذا ما أتمناه واحتاجه، لكني لن اطلبه منك."

"منذ متي أحتاج أن يطلب مني العون من أشعر انه يحتاج اليه؟ ان كلمة السر لبذلي روحي وحياتي لأي شخص هي "احتاج اليك"، اهنئي واهدئي بالاً فقد صادفتي نبيلاً حقيقياً وارجوا ان أكون كذلك."

.........

انفرجت شفتاه لأول مرة منذ زمن عن ابتسامة واسعة تنم عن سعادة حقيقية ثم قال بصوت هادئ رصين "حسنا، سأشرع من الان في تقوية دفاعات المنزل استعداداً لما هو قادم، وانتم استمتعوا بوقتكم داخل المنزل ولتعتمدوا علي ابيكم الجديد وفارسكم الصنديد." ثم التفت الي فرسه قائلاً" اما انت يا رفيق العمر والكفاح فقد آن لك ان ترتاح، لقد اتعبتك في مغامراتي سابقاً، لكن فارسك قرر أخيراً السكون والركون الي الراحة بعد أن وجد بغيته التي كان يبحث عنها طيلة حياته وحري بك أنت أيضا أن تجد الراحة والسكون.

عد الي المنزل وأقرئ ابنائي مني السلام وقل لهم ان اباكم يؤسس لحياة جديدة فيها شفاء لكم وراحة له، وسيستدعيكم حين ينتهي من تذليل ما بها من صعاب ولن يتخلي ابداً عن أمانته والا لن يستحق ان يكون أبا لكم”.

يتسارع الزمن الذي يمر علي بطلنا وهو يصارعه اثناء عكوفه علي تجهيزات الدفاع لمنزله الجديد وكأنه والزمن خصمان متنافسان، وبين فينة واخري يلتقط نظرة من تلك العينان الفاتنتان فتزيده قوة وعزماً وكأنه يستعد لفرح وليس لصراع وقرح.

وفاتنته تطل عليه بابتسامتها مرة وبكلماتها العذبة مرة اخري

"والله ما طلعت شمس ولا غربت الا وحبك مقرون بانفاسي"

"والله ما كتبنا ولا نكتب الا اليك"

فيزداد يقينا انه حب متبادل وأنه ليس بغر مخدوع بل عاشق ومعشوق.

....................

ذات صباح واثناء انهماكه في اعماله سمع الصراخ والهلع "الاورك، الاورك قادمون"، ورأي الناس تجري فزعة في اتجاه معاكس لغبار كثيف آتي من بعد يثيره سير وحوش تشبه البشر.

أنهم الاورك

حسناً، لقد حانت الساعة المرتقبة، والتفت عائداً للمنزل لكنه ويا للدهشة وجده موصداً وقد احكمت كل ابوابه ومداخله بالغلق.

طرق الباب بقوة " افتحوا الأبواب، لقد اتي الاورك وحانت المواجهة"

لكن ما من مجيب، ثم ظهرت فاتنته من فوق المنزل وهي تنظر اليه بتجهم وهلع ناداها مندهشا  "افتحي الباب، ما بك يا حوريتي؟ لماذا تمنعيني من الدخول ؟"

ردت ببرود ثلجي " يا عزيزي انها معركتك وانا بداخل منزلي مع ابنائي لا طاقة لي بقتال الأورك ولم تعد لي قوة للصمود.

فلتهرب بنفسك ولتنجوا بحياتك ولكني لا استطيع القتال معك ضدهم"

صرخ فيها " لست اطلب منك القتال ولكن العون الذي منك ارتجيته، لم حاولت بناء دفاعات للمنزل وتمسكت بالبقاء معكي؟ لأنكي اشعرتني بحبك لي وانني ادافع عن حياتي وكياني، ولكن علام اقاتل اليوم ولأجل من؟ أتطلبين مني اليوم هروب الجبناء؟ وأين كانت وعودك التي وعدتيها سابقاً؟"

نظرت اليه بقوة قائله " لم اطلب منك شيئاً ولم اعدك بشئ، انت عرضت وانا وافقت، والقرار كان قرارك .

عليك ان تقرر الآن أيضاً اما الاستمرار في المواجهه او الهروب قبل فوات الأوان"

بنظرة ملأتها الحسرة والألم رد قائلاً " تعلمين أني لا اهرب من مواجهة وتطلبين مني الآن الهروب؟ كنت استمد عزيمتي وقوتي وصمودي من وقوفك بجانبي ومؤازرتك لي وتطلبين مني الآن الهروب ؟ رأيت فيكي مرفأ لسفين حياتي وملاذاً التجئ اليه بعد ان قضيت عمري اهرب الي الموت من همومي وأحزاني ثم تطلبين مني الآن الهروب؟

اعطيني تفسيراً لفعلك هذا ؟ اعطيني توصيفاً له بغير لفظ الخيانة والتغرير؟

تباً لقلب يورد صاحبه المهالك والردي"

امتشق حسامه والتفت الي الخلف فوجد وحوش الاورك قد تعاورته من كل جانب، لكن صوتاً من اعلي خلفه دوي في أذنيه صائحاً " أيها الغرباء، انني أسيرة وحبيسة هذا الدار، من استطاع تحريري فانني له ملك يمين ولا شأن لي بقتالكم"

رمقها بنظرة الم واحتقار ولم يطق الصبر علي الموت فاندفع يطيح برأس اقرب الوحوش اليه بسيفه.

 معلنا بداية النهاية!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قيامة

في خلسة يتسلل شعاع الشمس الذهبي بين ثنايا مدخل ذلك الغار الكبير أو الكهف الصغير، والمتواري عن عيون المتطفلين حيث يبدوا للرائي كجحر ضب او فالق في الجبل.

يصافح الشعاع الذهبي رويداَ رويداَ وجه ذلك الاشعث الاشيب ويداعب عيناه الناعستان في نعومة فتوقظها ببطء، ينتبه الرجل الي تلك التحية الصباحية من الطبيعة فيهش لها ويحاول النهوض في نشاط، لكن آلام جروحه الغائرة والمتعددة تجبره علي البطء في حركته، متحسساَ تلك الجروح في ألم وضيق، راجياَ شفائها بأسرع وقت لينهض من رقاده الطويل ويستكمل كفاحه المرير.

تحامل الرجل متجهاَ الي مخرج الكهف يستطلع ذلك الوادي الفسيح امامه، الممتد علي مرمي البصر، يراقب ما قد يظهر فيه من تلك الوحوش النهمة شبيهة البشر وهي تجول بحثاَ عن طرائدها من الناجين فتسترق منهم ما تسترقه وتقتل الباقي بلا شفقة ولا رحمة.

حين يزيد البلاء عن الحد فالقليل منه يبدوا رحمة!

بدا له جسماَ ضئيلاَ يتحرك في الأفق، ربما احد تلك الوحوش يتحرك عن بعد، لا يبدوا كاحد تلك الوحوش من هيئته، يا الهي انه فتي صغير يجري تجاه الجبل حيث يختبئ هو داخل كهفه الصغير. كافح الرجل ليخرج من الكهف ويشير بردائه الي ذلك الفتي كي يلجأ اليه، وبالفعل تحول جري الفتي تجاهه بسرعة حتي اقترب منه فقنصه الرجل بسرعة خاطفة الي داخل الكهف حتي لا يراهم احد وينكشف امره ومخبأه وفي ذلك نهاية كليهما.

التقط الرجل أنفاسه بعد ما بذله من جهد ثم تطلع الي الفتي بعناية واشفاق؛ فتي برئ المظهر ضئيل الحجم مذعور الهيئة غير مهندمها.

"ما قصتك أيها الفتي؟"

"اهرب من بطش تلك الوحوش التي غزت بلادنا يا سيدي، ما الذي يحدث؟ ولماذا تعذبنا تلك الكائنات البشعة وتهاجمنا؟"

"حين نفقد الحكمة ونبطش بالحكماء، حين نتخلي عن القيم التي تقيم المجتمعات والاسس التي تبنيها، يتسلط علينا الدهماء ووحوش الخلائق مما نعلمه ولا نعلمه، سمها ما شئت لكنها غضب الاله علي عباده وناتج الانهيار الذي انحدرنا اليه."

التفت الفتي حوله في ذهول تام ورعب منقطع النظير ثم غمغم قائلاَ "ولكن من اين لهم كل ذلك الجبروت الممزوج بالقسوة المفرطة اللتان يتصفون بها؟ لقد ذبحوا ابي امام عيناي بكل سهولة وسرعة وهو يتصدي لهم ليعطيني فرصة للهروب بامي، ولم يرحموها ولا شقيقتي في بطنها بطعنة سيف اخترقت كليهما. أي قلوب تلك التي تحويها صدورهم؟"

لم يستطع الفتي مواصلة الصمود والتجلد فدفن راسه بين راحتيه وغاب في موجة بكاء حار، وضع الرجل يده علي كتفه في حنان قائلاَ "هون عن نفسك يا ولدي، لا تنتظر من عدو رحمة مثلما لا تنتظر الغدر من الصديق، حاسب نفسك اولاَ علي تخاذلك وتهاونك في الدفاع عن نفسك قبل ان تحاسبه علي خسته وفجوره، وانظر الي نقاط ضعفك وسددها لا الي قوته وحجمها، والا فلن يختلف مصيرك عمن سبقوك بين القتل والاسترقاق."

كفكف الفتي دموعه قليلاَ ونظر الي الرجل بعينين محمرتين يثبر بهما اغواره لبرهة ثم قال "عماه، اتراك تعني أن ..." قاطعه الرجل بحزم "نعم يا ولدي، المقاومة هي الخيار الوحيد لنا، فما سلب بقوة لن يستعاد الا بقوة."

"بالله يا عم هل تمزح؟ ترانا انا وانت سنواجه عدوا غاشماَ كهذا فضلاَ عن ان ننتصر عليه؟"

"انني اتحدث عن كل المقهورين في الأرض الذين عانوا من ذلك الوباء وذاقوا الويلات علي ايدي تلك الحيوانات الهائمة البشعة، لو تجمعت جهودهم ومقاومتهم في كيان وتنسيق واحد فهم بالتأكيد قادرون علي احداث تغيير في ميزان تلك الحرب المصيرية."

"حتي لو تجمع كل الناجين في شتي الانحاء، فهل ستكون لديهم أي فرصة للإنتصار في تلك الحرب؟"

ابتسم الرجل بتهكم قائلاَ "ومن قال انني اتحدث عن كل الناجين؟ جزء منهم فقط من يصلح لتلك المهمة الجلل ويستحق ان ينال ذلك الشرف الجليل."

رد الفتي بابتسامة اشد تهكما وحسرة "أواه يا عم، وكأنك تزيد الوحل بللاَ علي بلته! فهل ننجح كأفراد قلائل فيما فشلت فيه الجيوش المجيشة ؟"

اعتدل الرجل في جلسته في حزم برغم ضعفه وآلامه وقال مثبتاَ ناظريه في عيني الفتي "استمع يا فتي من رجل خبر الحياة بضعف عمرك، ولتعلم الآتي :

أولاَ ما حسم حق معركة مع الباطل من قبل بميزان قوة، بل كان الباطل في اغلبها يفوق الحق في قوته عدة اضعاف، ورغم ذلك كان الباطل دائماَ ينهزم، شريطة ان يكون امامه حق يأخذ باسباب النصر.

ثانيا بداية انهيار امنع السدود يكون بسقوط صخرة منه، فلا تستصغر أي محاولة لإسترداد حق كانت، فربما كانت هي من تسقط الصخرة!

ثالثا أي قوة تحت الشمس مهما عظمت وتجبرت فلها نقاط ضعف خفية كفيلة بان تمكن أي قوة اخري مهما ضئلت من كسرها وهزيمتها وقهرها، ان احسنت تلك القوة الضئيلة استغلال نقاط الضعف تلك.

رابعاَ قد تستطيع القوات الغير نظامية ما لا تستطيعه الجيوش النظامية والتي لا تقوي ابداَ علي خوض حرب مع عدو غير ثابت او محدد، فلا تقلل ابداَ من تاثير المقاومة مهما صغرت امام عدوها."

تفحص الفتي كامل جسد الرجل بعيناه في اندهاش وعجب قبل ان يتمتم "عجباَ لك يا عم! تتحدث وكأنك ستشارك في تلك الحرب الضروس المحفوفة بالمخاطر والغير مضمونة النتائج والتي سنتنفس فيها الموت كالهواء صباح مساء."

"وما علي الا اقاتل فيها حتي وانا في ذلك العمر؟ ما استحق ان يعيش يا ولدي من كان لنفسه دون غيره، انها لبذرة تزرعها وتطعمها وترويها وانت تعلم انك لن ينالك منها شيئاَ، لكنك تعلم يقيناَ ان جهدك وتضحياتك لن تضيع هباء بل ستثمر وتزدهر بعدك بأفضل مما كنت ستستفيد منها انت."

اعتدل الفتي في هيئته وقد مسح عن عينيه دموع الحسرة والالم واطل منها نظرات الحماسة والامل قائلاً "حسنا يا عم، ارشدني بحكمتك وخبرتك الي الخطوات الاولي التي اتبعها كما ارشدتني الي هدفي وطريقي الذي ساسير فيه."

بادل الرجل فتاه بنظرات القوة والحماس قائلاً "عليك ان تنطلق بحماستك ونشاطك هذا الي غيري ممن تعثر عليهم من الناجين لتستثير حماستهم وتضم من استطعت منهم الي جيشك الصغير، اما انا؛ فاثناء التئام جراحي واستعادة عافيتي ساشحذ اسلحتي واصلح درعي وترسي واعيد الامل الي قلبي حتي أكون في طليعة جيشك النامي عند قيامته."

أطل بريق الامل من عيني الفتي وهو يبتسم ابتسامة منتشية قبل ان يجرع كمية من الماء دفعة واحدة ثم يقول "حسناَ، انتظرني، ساعود."

قالها وانطلق كسهم خارق يدفعه وتر مشدود باحكام في قوس قوي بيد بطل اسطوري، يا لروعة الشباب!

قالها الرجل في نفسه قبل ان يتناول سيفه ومسن صغير وياخذ في شحذ النصل القوي وهو ينظر بامل نحو السهل في اثر الفتي.

يزأر في اعماقه بقوة "يارب"

وينتظر!

 

 

 

 

حياة

 

من بين ثنايا الصخور وخلفها بالتبة الصخرية تلك، يقبع الفتيان في الخفاء، يراقبون عن كثب وباهتمام وفحص دقيقين تلك الجحافل المتراصة علي مد البصر. وما ان لمحوا كبيرهم الاسن يشير اليهم بالتراجع حتي انسحبوا اليه حيث اصطحبوه الي داخل المنحدرات الجبلية ليغوصوا جميعا في الغابة القريبة منهم.

في غياهب الغابة وبين اشجارها الكثيفة التف الفتيان جلوس حول نار مشتعلة، يتوسطهم كبيرهم الاشيب المسن وكأنها مائدة طعام، يلتمسون منها الدفء لأجسامهم وسط الجو القارس والضوء لعيونهم وسط الظلام الدامس.

أثناء تأملهم للنار المشتعلة في صمت قطع الرجل ذلك الصمت بصوته الهادئ "أعتقد انه حان الوقت لكي نتدبر ما سيحدث في مرحلة ما بعد تلك المعركة الفيصلية"

نظر الشباب مبتسمين الي بعضهم البعض وقال احدهم "انك مفرط في التفاؤل يا سيدي." في حين هتف ثان "أما تري يا عماه ان الوقت لا زال مبكراَ جداَ علي التفكير في هذا الامر؟" ابتسم الرجل متنقلاَ بنظراته بين الشبان الثلاثة قائلاَ "هذا من وجهة نظركم، أما في رايي فان قوة تؤمن بقضية عادلة وتاخذ بجميع اسباب النصر ويقوم عليها من أبنائها أناس مخلصين امثالكم مخلصين ومستعدين للدفاع عن قضيتهم ومبادئهم باغلي وانفس ما يملكون، فلن يتبقي بعد ذلك سوي تحقيق النصر لها، واني لأراه يتحقق عاجلاَ ام آجلاَ كما تراكم عيناي الآن، لولا انكم قوم تعجلون".

غمغم الشاب الثاني في حيرة "اننا يا عم قد تدربنا جيدا وقوتنا تتنامي بفضل الله، وامتلكنا القدر الكافي من الجرأة عليهم وعلي مواجهتهم، لكن ما زال فارق القوة والامكانيات يميل بشدة اليهم، لا ادري كيف سنخوض تلك المعركة المصيرية." رد الرجل بثبات "ومن قال انها المعركة المصيرية؟ انها البداية فحسب يا فتي، أما النهاية فلن تبلغها بتلك الروح الضعيفة، عليك السعي فقط لا بلوغ النتائج التي هي نتاج سعيك".

التمس الرجل مساحة فارغة من الأرض بجوار النار المتقدة يخط عليها إشارات بعصا رفيعة بيده قائلاَ "هاكم خطتي أعرضها عليكم ولكم وللقائد الخيار بقبولها او التعديل عليها.

أولا سنخوض حرباَ مفتوحة، نضرب من خلالها ضربات خاطفة موجعة ما استطعنا، دون الثبات في مواجهة مباشرة من اجل انهاك العدو او استنزافه واضعاف عزيمته وثقته، وتلك الأخيرة هي اهم اهدافنا.

ثانياَ يجب الا يحدد لنا العدو موضعا، بل سنكون له كشياطين تضرب من أماكن مختلفة واوقات مختلفة، وتكنيك كل عملية لا يتكرر مهما حدث بل يكون متجددا ومختلفاَ وغير متوقع قدر المستطاع.

ثالثاَ اقرظ ما نحن عليه من تقسيمنا الي مجموعات صغيرة لا تعرف بعضها البعض حتي لا تسقط جميعها بسقوط احداها، ولكن يجب ان ترتبط ببعضها من خلال آلية اتصال قوية وفعالة توفر لها سرعة تواصل مع القيادات المتدرجة وهو امر ضروري جداَ.

رابعاَ يجب ان يكون لنا عيون وايادي بين العدو، فرجل بينهم انفع من الف رجل بيننا، وعليه فعلينا اختراقهم بعيون ورجال لنا قدر المستطاع.

خامسا يجب اضعاف الروح المعنوية للعدو وبث الرعب والفزع بين افراده وزعزعة ثقتهم بقدرتهم علي الصمود والمواجهة، ويتم ذلك قبل المواجهات الحاسمة كي يقلل من سطوتهم وباسهم علينا."

تحمس احد الشباب قائلاَ "فلنتعاهد اذن علي الموت في سبيل قضيتنا ولنقتل بداخلنا كل ما يفرقنا ولا يجعل الايثار والتضحية هو السلوك السائد بيننا" ابتسم الرجل قائلاَ "لو لم تكونوا كذلك فلا جدوي من المقاومة اساساَ، ولكان الذل والهوان مصيرنا". اطرق الشباب في تفكير عميق وهم ينظرون الي النار، وكانهم منجمون يستشرفون فيها مستقبلهم الغامض، بصمت وترقب ينتظرون.

----

لم يشعر بها وهي تنسل الي داخل خيمته وهو يهندم لباس الحرب حول جسده، لم يشعر الا بحرارة قلبها وهي تقف خلفه توقظ لهيب حبه القديم من ثباته.

"اهلا بعودتك"

"كيف عرفت بقدومي؟"

"تري القلوب ما لا تراه العيون"

"فهل غفر لي قلبك ما مضي؟"

التفت اليها بهدوء وعيناه تسبر اغوار عينيها قائلاَ من اعماقه "قلب العاشق كقلب الاب لا يملك الا الغفران، والقلوب العامرة بالحب لا مكان بها لكره"

"اذن فلم لم تعانقني مثلما كنت تفعل سابقاَ؟"

"لقد ارتديت اكفان الحرب كما ترين، واخشي عليكي من تعلق قلبك بي والا اعود منها فتكابدي لوعة الفراق التي اكتويت انا بلظاها من قبل"

طفرت الدموع من عينيها وهي تغمغم "كم انا قليلة امامك!"

"بل قولي كم ان حبك لي ضئيل امام حبي لك، انت تستهلكين رصيد حبك لدي بمجون وانانية، اما انا فانميه علي مر الأيام حتي اضحي اعظم من ان يسعه خيالك، والتضحية لأجله بكل ما املك اقل ما اقدمه له."

انهارت الدموع من مآقيها وهي تنوح "كم انا ضئيلة امامك، كم هو قاس جلدك لي"

"ربما كان هذا بمثابة الوقود الذي يحرك ساكن قلبك فتحافظي علي ما تبقي من هذا الحب وتنميه ليكون جديراَ لما فطر له في قلبي"

اقترب منها فاتحاَ ذراعيه فارتمت في احضانه مستغيثة ومحتمية، فضمها بحنان ورفق وعانق القلبان بعضهما بعد ان مضي ردح من الزمن علي اخر عناق بينهما.

"سانتظرك، ولتكن خيمتك سكني ومأواي ثم قبري لحين عودتك الي"

نظر في عينيها بحنان الدنيا قائلاَ "وليكن ضياء عيناكي هذا اخر عهدي بها، وليكن وعدك هذا سلاحي الذي احطم به كل ما يمنعني من العودة اليها.

انتظريني"

قبلت نظراته عينيها في هيام وغرام، ثم انطلق مسرعاَ للخارج.

نحو المجهول.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الثلاثية الثالثة (يوميات بلبل)

"اعزائي المتابعين، السلام عليكم أيها الاحباب، انني في الحقيقة .. لحظة وسأعود"

يعدل من وضعيته امام الكاميرا علي الحامل المعلق برقبته ثم يعاود الحديث امامها بابتسامته السنيمائية "هكذا افضل.

انني في الحقيقة اعبر عن عميق سروري وامتناني لكم لتشريفكم لي في قناتي المتواضعة علي اليوتيوب، واخص بالشكر الصديق / علي شكري علي استضافتي في ثلاثيته كأول يوتيوبر من الطيور وربما الأول من غير البشر ككل، حيث اعرض عليكم في جولة مختصرة مشاهد من حياتكم معشر البشر تكشف الحقيقة التي تزيفونها بانكم ارقي مخلوقات الله علي الأرض، ولكم الحكم بعد ذلك علي أنفسكم في مدي دقة هذه المقولة من عدمه.

من غير زعل نبدأ جولتنا، يلا بينا"

بانسيابية رائعة انزلق البلبل الصداح من فوق الشجرة ليطير في الهواء وكاميرته الصغيرة تلتقط الفيديو للمنظر بشكل بانورامي بديع ثم اتي صوته الجميل من خلفية المشهد

"في هذه الجولة اطرح عليكم إشكالية مفهوم الإنسانية ومدلولاتها لديكم معشر البشر، اعلم ان الخالق قد اختصكم بنعم ومزايا عديدة جعلتكم تفضلوننا وتتميزون علينا، بل ونكاد نكون بالكامل مسخرين لكم واصبح لديكم القوامة علي سائر المخلوقات، ولقد نسيتم او أقول تناسيتم ان هذه القوامة مردودة عليكم قبل ان تكون ميزة لكم، ولو لم تقوموا بحقها فستحاسبون وتعاقبون عليها بنفس القدر الذي شرفتكم به.

لحظات يا احبة، اري بازاَ اخرق يترصدني من بعيد، سأحاول الفرار منه واعاود الحديث، لا تذهبوا بعيداَ فلن اقطع البث المباشر، لن أتأخر عليكم"

دارت الكاميرا في ارجاء الجو دورات واسعة بشكل لولبي وعشوائي، وفي بعض لقطاتها ظهر صقر صغير من بعيد يحاول جاهدا اللحاق بها، حتي توقفت بين فروع شجرة وارفة الظلال كثيفة الأوراق، وظهر البلبل في نافذة صغيرة في ركن الشاشة التي تصور الأجواء امام امام الكاميرا، وبابتسامته العريضة وانفاس متقطعة لاهجة قال

"عدت اليكم يا احباب، لقد كانت تلك المناورة فرصة جيدة لتروا باعينكم في بث حي كيف نشقي نحن اليوتيوبرز ونجتهد معرضين انفسنا للمخاطر لنخرج لكم اعمالاَ ممتعة ورائعة نرجوا ان تحوز رضاكم، لذا ارجوا الا تبخلوا علينا بالاشتراك في القناة وتفعيل زر الجرس ليصلكم كل جديد ومثير منا، وبالطبع لا ننسي اللايك والشير، ويلا نطير"

أقلعت الكاميرا بحاملها الذي ظهر وجهه وعليه علامات الجد والترقب بالنظر الي كل الاتجاهات، بدا عليه التركيز في شيء امامه ثم ابتسم قائلا

"تعليق ساخر من احد الاحباب يقول فيه .. اراك تهرب من موت يطاردك، اهو انسان متجرد من انسانيته من يسعي لقتلك؟"

اتسعت ابتسامته وازدادت عزوبتها وهو يقول "يا عزيزي، الا يمكنك التفرقة بين من يقتل ليقتات ومن يقتل ليلتذ بالقتل؟ انني لا الوم هذا الباز علي ما فعل، من حقه ان يقتل ليعيش، ومن حقي ان ابذل جهدي لأنجوا بحياتي، واعيش ايضاَ.

اما انت أيها الانسان فما هدفك من القتل؟

انك قد تجرم القتل دفاعاَ عن النفس او الممتلكات ولكنك تبرر قتل الملايين من أبناء جلدتك وغيرهم بحجج التوسع ونشر القيم والمثل العليا، وكانها لا تنتشر الا بإهراق دماء الأبرياء والعزل بذلك الاسراف البشع.

لاحظ الصور التي استعرضها لكم علي الشاشة الان، انها لأفراد يعدون علي الأصابع ابادوا ما يزيد عن عدد سكان الارض من البشر منذ ما يقرب من الفي عام من عمر تواجدكم عليها، اغلبهم من الضعفاء والعجائز والابرياء، استعرض بينك وبين نفسك الأسباب التي اوعزتهم الي ذلك، ورغم ذلك يعدهم الكثيرين منكم امثلة للعظماء ممن عليكم ان تحتذوا حذوهم.

أهذه انسانيتكم؟

اترك لكم روابط لفيديوهات ومصادر اخري تبين لكم امثلة من المجازر البشعة والاحداث التي لا تصدق مما قام به البشر تجاه بعضهم البعض سواء في الحرب او حتي في أوقات تدعونها باوقات سلم، وفي عصور متاخرة المفترض فيها نضوج العقل البشري واكتمال رقيه وتحضره، طالعوها – وغيرها يوجد الكثير – ثم اجيبوا أنفسكم قبل ان تجيبوني عن سؤالي.

اهذه انسانيتكم ؟

اترككم الان لأني جائع ومتوتر في ذات الوقت، علي ان اعود اليكم في بث حي ومباشر جديد بعد ساعة من الان، ورغم يقيني بان عدد المشاهدين سيقل ولكن ساعود لمن يريد ان يصارح نفسه لا ان يدفن راسه في التراب ويعيش أوهام زائفة، ولا ضير بالنسبة لإنخفاض عدد المشاهدات المتوقع، فاليوتيوب لن يدفع علي اية حال ليوتيوبر من الطيور!

انتظروا عودتي، دمتم بخير"

يتوقف البث

 

 

***

 

تضئ الشاشة ثانية بمناظر بديعة لسماء صافية ومروج واسعة وحدائق غناء تتنوع فيها الازهار والأشجار بتناغم عجيب غاية في الروعة والابداع، يقطعها نهير صغير ينساب منه ماء صافي يسمع له خرير كأجمل واعذب ما تكون الأصوات الجميلة.

يظهر البلبل الصداح في مربعه الصغير اسفل الشاشة بابتسامته الجميلة العريضة ثم يصدح قائلاً

"اعزائي الذين ما زالوا متابعين، عدت اليكم كما وعدتكم في بث جديد، ونحن المخلوقات الغير بشرية نادرا ما نخلف وعودنا ان لم يكن يعد ذلك مستحيلاَ.

اردت في البداية ان امتع ناظريكم ببديع صنع الخالق في تلك المناظر المفرطة الروعة والجمال من الطبيعة الخلابة، ومعها بالطبع صوتي العذب ووجهي القبيح، هاهاي، دعابة سخيف، اليس كذلك ؟ اراها انا كذلك ولكني احبكم من جموع قلبي.

لا بأس، لنكمل"

يستمر عرض تلك المناظر الخلابة والكاميرا تتنقل طائرة مع حاملها من منظر رائع الي آخر أروع الي تالي أروع واروع، ثم اتي صوت الصداح من الخلفية بما ينبئ عن نظرات الهيام والوجد في عينيه وهو يقول

"سبحان الخلاق العظيم!

تري لو اخبركم احدهم انه ينوي تدمير هذا الجمال الذي تطالعه اعينكم، فماذا انتم فاعلون؟

فما بالكم ان علمتم انه شرع وبوتيرة متزايدة في تدميره تدميرا كاملاً واتي علي اكثره؟

فما بالكم ان علمتم ان هذا الجمال وتلك الثروة ملك لكم وخلقت من اجلكم؟

فما بالكم ان علمتم ان هذا الجمال وهذا الابداع هو مصدر الحياة لكثير من المخلوقات غيركم والتي بدونه تندثر وتنقرض؟

هل تصفون من يقدم علي ذلك الجرم باقل من القاتل السفاح؟

انصفتم بحكمكم علي أنفسكم!

يا من تتذرعون بسعي الانسان الي تعمير مستقره حسب احتياجاته ومتطلباته، لستم وحدكم في هذا الكوكب، وكما تريدون البحث عما يلبي احتياجاتكم فهناك من المخلوقات من له حق الحياة والعيش مثلكم، انتم تسعون الي الرفاهية وغيركم يسعي الي الحياة، فما بالكم بالفساد في العالم تعيثون؟ الصحاري والقفار تملأ الكوكب فلتعمروها ولتتركوا رئة الارض التي يحيا منها العالم ويتنفس معافاة وسليمة، فلا تدمروها وتدعون زورا انكم مصلحون.

الطاقة التي تستولدونها من بين أطنان السموم التي تقذفونها في ربوع السماء والارض تستطيعون الحصول عليها من طرق آمنة غير ضارة بكم وبالبيئة التي تحيون، أي منطق وعقل يبيح لنا حرق السفينة التي تقلنا في عرض البحر بحجة التدفئة وطهي الطعام!

يمكنكم الحصول علي تلك الطاقة باضعاف ما تحصلون عليه من اساليبكم ووسائلكم الحالية المدمرة للحياة علي الكوكب وفيه ما فيه من أمم امثالكم من المخلوقات الأخرى التي لا ذنب لها الا انها حبيسة قفص يساكنهم فيه مجموعة من المجانينَ!

فلترحموا علي الأقل الضعفاء والمساكين من بني جلدتكم الذين يموتون ببطء من تلك الممارسات الشاذة لصالح طغمة فاسدة محدودة العدد عظيمة الأثر والتسلط تسعي جاهدة لحصد الثروات بكل الطرق ولو بحصد الأرواح!

فلتقرؤا التاريخ ولتعتبروا، كل افساد يطغي علي الأرض وينتشر فيها تاتي حركة تصحيح من خالق وموجد من فيها فتاتي علي كل ما فيها من فساد وانحراف، بعد ان يكون التصحيح السلمي من خلال رسالاته ورسله غير ناجع ولم يؤتي بالثمار المرجوة، فيأتي التصحيح الإلهي علي شكل عقاب شامل يزيل كل فساد ومفسدين، واني اري ان أوان هذا التصحيح قد اقترب، فلنعتبر ان كان لدينا قليل من الارب!

اتوقف الآن لقليل من الراحة والتقاط بعض الانفاس والاستمتاع قليلاَ بتلك الأجواء العبقة الممتعة، وساترك البث لتستمتعوا معي بتلك المناظر الخلابة علي ان اعاود استمتاعي بلقائكم بعد ساعة من الان.

سامحوني في صراحتي الجافة وتعبيراتي القاسية احياناَ ولكني التزم معكم بمبدأ (صديقك من يصدقك) ونحن نحتاج الي نستفيق قبل فوات الأوان، فانت أيها الانسان عماد الحياة في هذا الكوكب؛ بك تعمر الأرض وبك تنهار، ومصائرنا مرتبطة بافعالك.

انتظروا عودتي بعد ساعة من الان"

 

 

 

 

 

 

***

 

ظلت الشاشة تضئ بالصور والمناظر الخلابة مع أصوات الطبيعة حتي ظهرت صورة البلبل وهو يضبط وضعيته امام الكاميرا ثم اتي صوته العذب قائلاَ

"مرحباَ يا احباب، عدت اليكم من جديد لاصحبكم برحلة جميلة بكاميرتي المتواضعة وتعليقي الرائع، احم احم، تباَ لتواضعي ، هاهاي، دعابة سخيفة ثانية، فلنكمل!

سأناقش معكم هذه المرة قضية شائكة اخري تتعلق بالعلاقات فيما بينكم معشر البشر، فلا خير لنا فيكم ان لم يكن لكم خير في انفسكم.

من الملاحظ (واسمحوا لي في تعابيري ايضاَ هذه المرة) تدني المستوي الأخلاقي للبشر وانحطاطه جيلاً بعد جيل، واضحي ذلك جلياَ يلاحظه كل جيل عن الجيل الذي قبله والذي يليه، تدني المستوي في العلاقات بينكم بحيث بدأت تندثر صفات المروءة والايثار والحب والتعاطف والتراحم والصدق والأمانة وسائر الصفات الحميدة التي شكلت مصطلح الإنسانية الذي تفاضلوننا به، واستبدلت بمعكوسها من الصفات السيئة كالخسة والانانية والقسوة وسائر الصفات السيئة التي جاهدتم علي مر العصور للتخلص منها والتنصل من عارها، لكنها صارت صفاتكم المميزة في العصور المتأخرة من وجودكم علي كوكبنا، فان كان هذا حالكم بينكم بعضكم البعض، فهل ننتظر ان ترقبوا فينا الا ولا ذمة؟ ضرب من الخيال وسراب بقيعة!"

نقلت الشاشة علامات التجهم والجدية التي ظهرت علي وجه البلبل قبل ان يستطرد "معذرة يا احباب، مضطر الي إيقاف الجولة بشكل مؤقت والتخفي بين الأشجار لحين ان يذهب هؤلاء الصيادين درءاَ للمخاطر"

توقفت الكاميرا عن الحركة وظهرت امامها أوراق أشجار ونظرات الترقب وعلامات الذعر لم تتوقف علي وجه البلبل وهو يطالع باهتمام بالغ ما امامه.

ابتسم البلبل ابتسامة باهتة وهو يطالع شيئاَ امامه مباشرة وقال "يا عزيزي اقدر رأيك وتعليقك ولكن مثل هؤلاء الصيادين يقتلون لأجل القتل والذي يمثل متعة لديهم، لن يمثل فارقا لديهم كونهم لن يأكلوني او يستفيدون بجثتي باي صورة، ربما يصنعون معروفاَ ان اطعموها حيوان جائع بدلاَ من ان تترك لتتعفن كالمعتاد.

يا عزيزي لم المكابرة وعدم الاعتراف بالواقع؟ انظر الي التعليقات هناك من يؤيدني في رايي.

حسناَ سأحاول ان أريك اشكال هؤلاء الصيادين ولتحكم بنفسك هل سيمثل استفادتهم مني مانعاَ لهم لعدم صيدي ام لا، بالرغم من ان هذا يمثل خطورة كبيرة علي حياتي، ولكن لا بأس، انها ضريبة اظهار الحقيقة."

توارت أوراق الشجر قليلاَ امام الكاميرا ليظهر ثلاثة اشخاص باسفل يحملون بنادق صيد، صرخ البلبل فجأة "يا الهي، لقد رأوني، يجب أن .."ثم سكن الصوت كما صرخ فجأة، ودارت الكاميرا بالصور التي تعرضها الشاشة بسرعة حتي استقرت ارضاَ.

اقتربت الأصوات المسموعة شيئاَ فشيئاَ

"ضربة رائعة في الصدر مباشرة.

انه بلبل كبير الحجم، انظر المعلق في رقبته؟ انها تشبه الكاميرا.

عجيبة، ربما كان جهاز للتجسس، فلنسلمه للسلطات ونربح بعض المال.

بل ربما سندخل في دوامة استجوابات، حطمه ودعه مكانه ونكمل جولتنا"

اتي صوت تحطم قوي، وانقطع البث!

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة